محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    هجوم مليشيا التمرد الجمعة علي مدينة الفاشر يحمل الرقم 50 .. نعم 50 هجوماً فاشلاً منذ بداية تمردهم في دارفور    حمّور زيادة يكتب: ما يتبقّى للسودانيين بعد الحرب    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    مخرجو السينما المصرية    تدني مستوى الحوار العام    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    مرة اخري لأبناء البطانة بالمليشيا: أرفعوا ايديكم    تأخير مباراة صقور الجديان وجنوب السودان    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخي والتخييلي في رواية «ليالٍ بلا جدران»: شخصيات مطرودة من التاريخ وجدت مكانها في الرواية
نشر في الراكوبة يوم 12 - 01 - 2015

غدت الحدود بين التخييل والواقع ضبابيّة، وغالبأ ما سعى الأدباء إلى الحفاظ على الضباب الذي يخلط بينهما، وبالتالي يعقد الرؤية الصافية والمتماسكة. من هنا، تطرح مثل هذه الأسئلة: كيف يمكن التمييز بين ما هو حقيقي في العالم الخارج – نصّي عمّا يبنيه المؤلف، الذي يتحقق داخل العمل، ويقترح نمطاً نوعيّاً وخاصّاً لمعرفة العالم؟ وهل لنا القدرة على التمييز بينهما بوضوح، بينما أغلبهم يسعى للحفاظ على هذا الالتباس ويرتضيه أسلوباً في الكتابة؟
كثيرةٌ هي الروايات العربية الجديدة، التي تعيد استثمار المادّة التاريخية وتشكيلها من جديد عبر التخييل السردي؛ وهو ما ينعته الناقد العراقي عبد الله إبراهيم ب»التخيُّل التاريخي»، الذي «لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها، ولا يروّج لها، إنّما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المُعزّز بالخيال، والتاريخ المُدعّم بالوقائع، لكنّه تركيب ثالث مختلف عنهما». والأخطر في هذا الزواج بين التاريخي والتخييلي (تخييلاً أو تخييلاً ذاتيّاً بتعبير سيرج دوبروفسكي) سيشكّل وسيلةً تسمح بجعل حياة أولئك الذين لم ينتموا إلى فئة «المُهمّين في هذا العالم»، ولا مكان لهم في التاريخ، تبدو مهمّةً في عيون القرّاء، بعد أن يصير لها مكان بديل داخل الرواية. وبالتالي، يمكن القول إنّ وظيفتها الأساسية هي دمقرطة الكتابة: عبر منحنى التخييلية التي تجعل من كل حياة تستحقُّ أن تُرْوى.
ذلك ما يتحقّق في رواية «ليالٍ بلا جدران» (دار توبقال 2014) للمغربي حسن المددي، الذي جعل من التاريخ المغربي الحديث، أي ابتداءً من ستينيّات القرن العشرين، سنداً ومرجعاً لبناء عمله الروائي وتشكيل مستويات تخييله السردي وهويّته. كان الرهان الأوّل الذي عوّل عليه المؤلف هو نوعيّة الثيمة التي اختارها محوراً لرواية، وهي ثيمة مشبعة بإشكالات المرجع النفسي والسوسيوثقافي، مثل الهجرة: ليست هجرة اليد العاملة، بل المصائر والأفكار والتمثُّلات الرمزية والمشاعر الجماعية والعوالم البديلة، التي تنقّلت عبر شخصيّات هامشية ومنذورة للضياع والاغتراب (إبراهيم الخضار ومبارك البياض تحديداً) من قرية أيت همان الأمازيغية المهملة في جنوب المغرب، إلى فرنسا للعمل في مناجم الفحم وصناعة السيارات.
كانت القرية أشبه ببركة آسنة، حيث قهر الطبيعة والتقاليد والسلطة، حتى جاء فيليكس مورا، المشرف على تنفيذ اتفاقية اليد العاملة بين فرنسا والمغرب بتاريخ 01/06/1963، فألقى فيها حجرة غيّرت معالمها وأعادت أوراق اللعب من جديد. لم يكن فيليكس يريد اليد الشابّة الرخيصة فقط، بل يسعى من خلال جلبها لتعزيز مستقبل فرنسا الاقتصادي والسياسي، في ظلّ تنامي المدّ الشيوعي في أوروبا الغربية، بعد ابتلع أوروبا الشرقية من جهة، وفي ظلّ معاناتها من غلبة الشيخوخة على هرمها السكاني. وفي المقابل، كانت قرية أيت همان خارج التاريخ، منهكة بالفقر والبؤس، وبتوالي السنوات العجاف حيناً، وفيضانات الوادي المدمّرة حيناً آخر. ولهذا، كان خبر قدوم المسؤول الفرنسي بمثابة المفاجأة أو كوّة الضوء الوحيدة التي وجدها فيها إبراهيم وعمر وآخرون من شباب أيت همّان سانحةً لتغيير ظروفهم والثقة في مستقبلهم بعدما فقدوها. وما أبلغ عبارة «ليال بلا جدران» التي هي تمثيل كنائي عن الفراغ الذي يحياه المكان والشخصيات معاً؛ ففي القرية «تكتسي الأشياء ظلالاً غير مرئية لكآبة غامضة مشبعة بنكهة التراب وملوحة العرق وكدح الفلاحين»، وساكنتها لا تجد بها جدراناً تسند إليها خوفها وعزلتها وهشاشتها الإنسانية ليس فقط قبل الهجرة، بل وبعدها عندما يأخذ الشعور بالهوية عند بعض الشخصيات، مثل شخصية إبراهيم الخضار، انشطاراً وتفجُّعاً حادّاً، إذ يقول السارد وهو يحكي عن آلام إبراهيم الخضار في عزلته بفرنسا: «لقد أدرك فداحة وحدته، وبدأ يتلمس بأنامل الخوف المرتعشة جثث أيامه الباردة، ولياليه العارية التي غدت بلا جدران» (ص148).
أخذ الأبناء يهجرون قريتهم تاركين وراءهم أبناءهم وأهاليهم وبيوتهم الأولى، يحدوهم الأمل في تغيير واقعهم البائس، والانفكاك من حياة القرية البائسة، وكان «أغلبهم شباناً مترشحين للهجرة، بين السابعة عشر والثلاثين عاماً». على الحافلة المتآكلة التي «تحوّلت إلى صندوق كبير للتعذيب»، وفي طريق ممتدة عبر مسافة طويلة تبلغ أكثر من سبعمئة كيلومتر، استطاع الروائي أن يستثمر هذه المسافة نفسيّاً وتخييليّاً لبناء مشاهدات ومتواليات سردية تعكس دواخل هؤلاء الشبان المتوجّهين إلى مدينة الدارالبيضاء «التي يخيف اسمها سكان البوادي البعيدة» لإتمام إجراءات الهجرة؛ وفي مقدّمتهم إبراهيم الخضار حيث «غرق في بحر تأملاته ونسي فجأةً حياته الماضية في قرية أيت همان، كأن يداً سرّية امتدّت إلى ذاكرته لتمسح منها معالم الماضي وتفاصيله وجزئياته.. شعر بأنّه يدخل دنيا أخرى، وأنّه فعلاً يولد للتوّ ولادةً جديدة..» (ص29). وفي الدارالبيضاء، نزل إبراهيم وصديق طفولته مبارك البياض ضيفين على الحاج صالح ابن قرية مجاورة لقريتهما، وتعجب إبراهيم من هذا الأخير الذي استطاع، بفضل كفاحه المرير وإرادته القوية، أن «يصنع نفسه بنفسه» فيتحوّل من راعٍ منسيٍّ في قرى الجنوب إلى أحد كبار التجّار في المدينة، ولم يكن من إكسير الغشّ كما وشى به مبارك إليه. وبعدما تسلّما وباقي المترشحين المقبولين أوراقهم مع جوازات سفرهم، استقلّا، إبراهيم ومبارك، القطار إلى طنجة، ومنها إلى مرسيليا عبر الباخرة، ثُمّ إلى باريس، ومنها إلى مدينة لونس في شمال بادوكالي على الحدود الفرنسية البلجيكية، حيث يتمّ إسكانهم في أكواخ خشبية كانت معسكرات للمجنّدين المغاربة والأفارقة في الحرب العالمية الثانية.
من عذاب الحافلة، وعذاب الانتظار وسط جحافل المترشّحين، وعذاب قطار الشمال، اعتمد الروائي في بناء هذه المتواليات على أسلوب السرد الكرونولوجي، الذي يوهم بواقعيّة ما يحدث أو ب»أثر الواقع» من جهة، وعلى «التبئير» الداخلي الذي يتيح للقارئ أن يتعرّف على نوايا الشخصيات ومخاوفها وتوجُّساتها بين مدّ وجزر من جهة أخرى؛ وإن كان ذلك في لغة مغرقة في التفصُّح، التي لا تتوافق ووضع الصورة اللغوية لدى أكثر الشخصيات التي تنتمي إلى الفضاء الأمازيغي. لكن المؤلف يريد مراعاة الوحدة اللغوية للرواية والابتعاد عن التهجين اللغوي الذي رُبّما أدخل العمل في متاهات لغوية يتعقّد معها فعل التلقّي.
في لونس، لم يتأقلم إبراهيم الخضار وغيره مع الوضع الجديد، فعلاوة على ظروف العمل الصعبة في مناجم الفحم، كانت لا تفارقهم ذكريات الماضي، و»آلام إحساسهم الممضّ بالغربة التي تزيد وقدتها تعابير الكراهية التي يقرأها المهاجر على وجوه بعض الفرنسيين العنصريين، سواء في العمل أو في الحياة العامة» (ص62). وبعد عامين من هجرتهم إلى الشمال، عاد العمال المهاجرون لقضاء أول عطلة صيفية سنة 1965 في قراهم، جالبين العملة الصعبة للبلاد، ذلك لأنّ أجورهم في مناجم الفحم في فرنسا تضاهي أجور موظفي الحكومة. بعودتهم انتعشت الحياة في القرى، وعرفت الأسواق الأسبوعية رواجاً هائلاً حتى التهبت الأسعار، ودخلتها مظاهر المدنية، أسرة، أرائك، عطور، ملابس أنيقة، مصابيح الإنارة، أجهزة المذياع والتلفاز..
وقد أدى ارتفاع مستوى العيش إلى أن يعيد الترتيب في السلم الهرميّ الاجتماعي لقرية أيت همان، ويحدث فيها بعض العادات والسلوكات المرتبطة بمجتمع الاستهلاك، ويظهر إلى السطح بعض المظاهر الرمزية للثقافة الوافدة، وبالتالي يقلب المواضعات من جديد: «كان أفضل هؤلاء يرعى الغنم أو يعمل مياوماً في البناء أو عاطلاً يطارد الفتيات في فضاءات القرية. أصبحوا الآن رجالاً حقيقيين، يتبجّحون بكلمات فرنسية ينطقونها مشوهة.. لقد نسوا ماضيهم وما كانوا عليه من عوز وفاقة» (ص75).
وفي حوار يجري بينهما يضعنا الروائي أمام وعيين متعارضين للعالم يمثّلهما كلٌّ من مبارك البياض وإبراهيم الخضار. ففي مقابل الوعي الزائف والانهزامي للأول، كان إبراهيم الخضار يمتلك وعياً شقيّاً ومتفجّعاً، لكن حقيقيّاً، مما يحدث حوله من تغيرات ومسوخ، وقد قال: «في الحقيقة يا مبارك، إنّني أشعر بالغربة هنا وهناك. إنّنا نضحك على أنفسنا. لم نعد مغاربة حقيقيّين، ولن نكون أبداً ربع فرنسيين. إننا ضائعون وتائهون هنا وهناك». وفي بعده عن أهله ووطنه، ما فتئ إبراهيم يمضغ ماضيه ويشعر بكراهية لنفسه، حيث يستنشق، سواء في عمله في مناجم الفحم شمال بادوكالي، أو في معمل رونو للسيارات في بيلانكور، «هواء العنصرية والتحقير والإذلال». بإيعاز من مبارك، أخذ إبراهيم يرتاد حانة الأوراس التي تعرّف فيها على جاكلين المولودة في الجزائر من أمٍّ جزائرية وأبٍ فرنسيّ كان يتعاطف مع رجال المقاومة الجزائرية قبل أن ينخرط فيها فعليّاً. أُغرم إبراهيم بجاكي غراماً شديداً، وأحبّته هي، فعرّفته على أمها وإخوانها وزوجها رابح الذي كان يعاملها مثل أبنائه بعد موت أبيها. وحين عاد مبارك إلى القرية، أخبر أم العيد بأن زوجها إبراهيم متزوج بفرنسية. شعرت أم العيد بأنّ إبراهيم تخلى عنها وعن ابنيهما عمر وخديجة، وهما في أمس الحاجة إلى أي مساعدة. وقد استغلّ مبارك حاجة أم العيد إلى المال فحملها على أن تبصم على العقود والدفاتر، وقد باعت له كلّ ما تملك من المنزل والأراضي من غير أن تدري.
مرّت سنوات على أمّ العيد لم تسمع خلالها أي خبر عن إبراهيم، وكانت عرضة للتشفي والشماتة في أوساط القرويين. رغم ذلك، كافحت من أجل تربية ابنيها، عاقدة الأمل على عودة الزوج الغائب ولو بضرّة فرنسية، وأدركت أن مبارك يحقد على زوجها إبراهيم بسببها. هجرت القرية، وفي كوخ من الصفيح بحي الخيام في مدينة أكادير، سكنت مع ابنتها خديجة التي عملت خادمة في منزل قاضٍ، وابنها عمر الذي انقطع عن الدراسة التي نبغ فيها، وصار حمّالاً لأمتعة المسافرين في محطة الحافلات بتالبرجت، بينما هي اشتغلت منظّفة غرف في فندق بالمدينة الجديدة. ولمّا علم الحاج الطيب بقصّتها من أهل القرية، جاء إليها وحملها وابنيها إلى مراكش للعيش في بيته بين أفراد عائلته، وأتاح لعمر أن يتم دراسته حتى تخرّج من كلية الحقوق وعمل محامياً فأستاذاً في الجامعة. تزوّج عمر من ليلى حفيدة الحاج من ابنته خدوج. سافر عمر إلى فرنسا للبحث عن أبيه حتى عثر عليه بمساعدة صديقه الحسين الروداني الذي ضرب مثالاً للمهاجر الطموح الذي بدأ حياته راعياً للغنم في قريته فعاملاً في المناجم، ثمّ أستاذاً محاضراً في جامعة السربون؛ شأنه في ذلك شأن الدكتور محمد السبتي الذي أصبح أكبر الباحثين في المركز الوطني للبحث العلمي بباريس وصاحب ومدير نشر (المهاجر) التي أسسها لإسماع صوت المهاجرين بالفرنسية، مع ملحقين بالعربية والإنكليزية.
حين التقى عمر أباه إبراهيم كان في السبعينات من عمره وخط رأسه الشيب وكان يعمل كعون للحاج عيسى في محل لبيع المواد الغذائية، وذلك بعد أن قضى في السجن نحو عشرين عاماً بعد إدانته ظلماً بقتل أحد مرتادي الحانة من الصرب، فحققوا معه بوحشية و»شهدوا كلّهم ضده، واتّهموه بقتل الشاب الصربي عمداً بدافع العنصرية» (ص247)؛ وبعد أن قضى عدة شهور متشرّداً ومتسوّلاً، وواحداً ضمن متشرّدي العالم الذين يعيشون بمساعدات منظمة إموس المتخصصة في الأعمال الخيرية ومحاربة الفقر والتشرد، وأكثرهم من أوروبا الشرقية هرباً من الجوع والحروب الأهلية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أو من بعض البلدان العربية طلباً للجوء السياسي، بمن فيهم صديقه العراقي ماجد فاضل عباس، الصحافي والمناضل اليساري، الذي قادته معارضته للنظام إلى خارج وطنه، مفضّلاً حياة التشرُّد على أن يعود إليه.
عاد إبراهيم الخضار إلى وطنه، وإلى قريته أيت همان التي وجد أن لا جديد فيها يذكر سوى أعمدة الكهرباء وهوائيات التلفاز، الذي دخل كل بيت وصار النساء لا يعملن أكثر من مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، فلم يعد هناك حرث ولا حصاد ولا دراس.
تصالح إبراهيم مع معارفه فيها نازعاً من قلبه أي غلّ تجاه من أساؤوا إليه واستغلّوا غيبته، بمن فيهم مبارك البياض الذي تنازل له عن المنزل والأراضي التي اشتراها من زوجته أم العيد، وكان يعاني من مرض (السيليكوز) وصار معدماً ومُفلساً بسبب طيش ابنه عبد الله الذي سيغرق في عمليّة هجرة سرية في ما عُرف ب(قوارب الموت).
لقد زهدت فرنسا ومعها أوروبا في المهاجرين بعدما بنت بهم اقتصادها، الذين صاروا «مجرد آلات استنفدت طاقاتها فرمي بها إلى فضاء المتلاشيات، وعادوا إلى بلادهم حاملين أمراضاً مزمنة لا علاج لها..» (ص280).
لقد ختم الروائي روايته بهذه القناعة/ الحقيقة على لسان أحمد الإدريسي، وأكدتها أكثر من شخصية بنفسها، ولم يتدخّل في تسييسها وفبركتها.
فهذه أم العيد تقول في لحظة سخط: «»لقد عصف فيليكس مورا، النخّاس الفرنسي الذي أفرغ كل القرى من الشباب، بحياتها حلوها ومرها» (ص194)؛ وهذا الحاج إيدر يتعجب كيف «كانت فرنسا وبلجيكا وهولندا تستجدي اليد العاملة من المغرب والجزائر وباقي الدول الافريقية، واليوم انقلبت المعادلة»؛ وهذا الحاج الطيب يتحسر على «الشباب يجتهدون الآن للوصول إلى التراب الأوروبي بأي وسيلة»، بل إنّ الروائي لم ينبس، طوال العمل الذي يستغرق أكثر من ثلاثة عقود، ببنت شفة عن الصراع السياسي الذي كان مستعراً بين القصر ومعارضيه، ولا عن الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات النقابية والطلابية التي كانت تعبّر، في جزء كبير، عن سخط عارم في الشارع المغربي.
كان الروائي يريد أن يعطي انطباعاً بأن شخصيات الرواية كانت تواجه تاريخها نفسها بنفسها، ولا يد له عليها. فقط كان يجتهد في أن يُوجِد المكافئ السردي الذي يُعبّر عن هذا التاريخ الذي كانت تكتبه شخصيات هامشيّة منحدرة من واقع بائس، ومتصدّعة تعاني انشطاراً حادّاً بين عالمين وثقافتين.
بين التاريخي والتخييلي، سعى الروائي إلى أن ينشئ حبكة لا تنقطع عن سياقاتها الحقيقيّة، بقدرما لا تفرط في السياقات السردية المجازيّة التي تكفل للأحداث المتناثرة الانضواء في إطارٍ سرديٍّ مُتنامٍ ومحدّد المعالم، وهو يُحقّق ما يسميه بول ريكور ب(الهُويّة السردية) بوصفها بؤرة يقع فيها الامتزاج المثمر والفعّال بين التاريخ والتخييل، عبر آليّات السرد وأنماط بنائه. لم تكن سيرة إبراهيم الخضار إلا نموذجا لسير غيره من المهاجرين الذين لم ينتموا إلى فئة «المُهمّين في هذا العالم»، ولا مكان لهم في التاريخ؛ لكنّ الروائي جعل حياتهم تبدو مهمّةً في عيون القرّاء، بعد أن صار لها مكان بديل داخل الرواية.
كاتب مغربي
عبد اللطيف الوراري
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.