إسحق أحمد فضل الله يكتب: (وفاة المغالطات)    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخي والتخييلي في رواية «ليالٍ بلا جدران»: شخصيات مطرودة من التاريخ وجدت مكانها في الرواية
نشر في الراكوبة يوم 12 - 01 - 2015

غدت الحدود بين التخييل والواقع ضبابيّة، وغالبأ ما سعى الأدباء إلى الحفاظ على الضباب الذي يخلط بينهما، وبالتالي يعقد الرؤية الصافية والمتماسكة. من هنا، تطرح مثل هذه الأسئلة: كيف يمكن التمييز بين ما هو حقيقي في العالم الخارج – نصّي عمّا يبنيه المؤلف، الذي يتحقق داخل العمل، ويقترح نمطاً نوعيّاً وخاصّاً لمعرفة العالم؟ وهل لنا القدرة على التمييز بينهما بوضوح، بينما أغلبهم يسعى للحفاظ على هذا الالتباس ويرتضيه أسلوباً في الكتابة؟
كثيرةٌ هي الروايات العربية الجديدة، التي تعيد استثمار المادّة التاريخية وتشكيلها من جديد عبر التخييل السردي؛ وهو ما ينعته الناقد العراقي عبد الله إبراهيم ب»التخيُّل التاريخي»، الذي «لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها، ولا يروّج لها، إنّما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المُعزّز بالخيال، والتاريخ المُدعّم بالوقائع، لكنّه تركيب ثالث مختلف عنهما». والأخطر في هذا الزواج بين التاريخي والتخييلي (تخييلاً أو تخييلاً ذاتيّاً بتعبير سيرج دوبروفسكي) سيشكّل وسيلةً تسمح بجعل حياة أولئك الذين لم ينتموا إلى فئة «المُهمّين في هذا العالم»، ولا مكان لهم في التاريخ، تبدو مهمّةً في عيون القرّاء، بعد أن يصير لها مكان بديل داخل الرواية. وبالتالي، يمكن القول إنّ وظيفتها الأساسية هي دمقرطة الكتابة: عبر منحنى التخييلية التي تجعل من كل حياة تستحقُّ أن تُرْوى.
ذلك ما يتحقّق في رواية «ليالٍ بلا جدران» (دار توبقال 2014) للمغربي حسن المددي، الذي جعل من التاريخ المغربي الحديث، أي ابتداءً من ستينيّات القرن العشرين، سنداً ومرجعاً لبناء عمله الروائي وتشكيل مستويات تخييله السردي وهويّته. كان الرهان الأوّل الذي عوّل عليه المؤلف هو نوعيّة الثيمة التي اختارها محوراً لرواية، وهي ثيمة مشبعة بإشكالات المرجع النفسي والسوسيوثقافي، مثل الهجرة: ليست هجرة اليد العاملة، بل المصائر والأفكار والتمثُّلات الرمزية والمشاعر الجماعية والعوالم البديلة، التي تنقّلت عبر شخصيّات هامشية ومنذورة للضياع والاغتراب (إبراهيم الخضار ومبارك البياض تحديداً) من قرية أيت همان الأمازيغية المهملة في جنوب المغرب، إلى فرنسا للعمل في مناجم الفحم وصناعة السيارات.
كانت القرية أشبه ببركة آسنة، حيث قهر الطبيعة والتقاليد والسلطة، حتى جاء فيليكس مورا، المشرف على تنفيذ اتفاقية اليد العاملة بين فرنسا والمغرب بتاريخ 01/06/1963، فألقى فيها حجرة غيّرت معالمها وأعادت أوراق اللعب من جديد. لم يكن فيليكس يريد اليد الشابّة الرخيصة فقط، بل يسعى من خلال جلبها لتعزيز مستقبل فرنسا الاقتصادي والسياسي، في ظلّ تنامي المدّ الشيوعي في أوروبا الغربية، بعد ابتلع أوروبا الشرقية من جهة، وفي ظلّ معاناتها من غلبة الشيخوخة على هرمها السكاني. وفي المقابل، كانت قرية أيت همان خارج التاريخ، منهكة بالفقر والبؤس، وبتوالي السنوات العجاف حيناً، وفيضانات الوادي المدمّرة حيناً آخر. ولهذا، كان خبر قدوم المسؤول الفرنسي بمثابة المفاجأة أو كوّة الضوء الوحيدة التي وجدها فيها إبراهيم وعمر وآخرون من شباب أيت همّان سانحةً لتغيير ظروفهم والثقة في مستقبلهم بعدما فقدوها. وما أبلغ عبارة «ليال بلا جدران» التي هي تمثيل كنائي عن الفراغ الذي يحياه المكان والشخصيات معاً؛ ففي القرية «تكتسي الأشياء ظلالاً غير مرئية لكآبة غامضة مشبعة بنكهة التراب وملوحة العرق وكدح الفلاحين»، وساكنتها لا تجد بها جدراناً تسند إليها خوفها وعزلتها وهشاشتها الإنسانية ليس فقط قبل الهجرة، بل وبعدها عندما يأخذ الشعور بالهوية عند بعض الشخصيات، مثل شخصية إبراهيم الخضار، انشطاراً وتفجُّعاً حادّاً، إذ يقول السارد وهو يحكي عن آلام إبراهيم الخضار في عزلته بفرنسا: «لقد أدرك فداحة وحدته، وبدأ يتلمس بأنامل الخوف المرتعشة جثث أيامه الباردة، ولياليه العارية التي غدت بلا جدران» (ص148).
أخذ الأبناء يهجرون قريتهم تاركين وراءهم أبناءهم وأهاليهم وبيوتهم الأولى، يحدوهم الأمل في تغيير واقعهم البائس، والانفكاك من حياة القرية البائسة، وكان «أغلبهم شباناً مترشحين للهجرة، بين السابعة عشر والثلاثين عاماً». على الحافلة المتآكلة التي «تحوّلت إلى صندوق كبير للتعذيب»، وفي طريق ممتدة عبر مسافة طويلة تبلغ أكثر من سبعمئة كيلومتر، استطاع الروائي أن يستثمر هذه المسافة نفسيّاً وتخييليّاً لبناء مشاهدات ومتواليات سردية تعكس دواخل هؤلاء الشبان المتوجّهين إلى مدينة الدارالبيضاء «التي يخيف اسمها سكان البوادي البعيدة» لإتمام إجراءات الهجرة؛ وفي مقدّمتهم إبراهيم الخضار حيث «غرق في بحر تأملاته ونسي فجأةً حياته الماضية في قرية أيت همان، كأن يداً سرّية امتدّت إلى ذاكرته لتمسح منها معالم الماضي وتفاصيله وجزئياته.. شعر بأنّه يدخل دنيا أخرى، وأنّه فعلاً يولد للتوّ ولادةً جديدة..» (ص29). وفي الدارالبيضاء، نزل إبراهيم وصديق طفولته مبارك البياض ضيفين على الحاج صالح ابن قرية مجاورة لقريتهما، وتعجب إبراهيم من هذا الأخير الذي استطاع، بفضل كفاحه المرير وإرادته القوية، أن «يصنع نفسه بنفسه» فيتحوّل من راعٍ منسيٍّ في قرى الجنوب إلى أحد كبار التجّار في المدينة، ولم يكن من إكسير الغشّ كما وشى به مبارك إليه. وبعدما تسلّما وباقي المترشحين المقبولين أوراقهم مع جوازات سفرهم، استقلّا، إبراهيم ومبارك، القطار إلى طنجة، ومنها إلى مرسيليا عبر الباخرة، ثُمّ إلى باريس، ومنها إلى مدينة لونس في شمال بادوكالي على الحدود الفرنسية البلجيكية، حيث يتمّ إسكانهم في أكواخ خشبية كانت معسكرات للمجنّدين المغاربة والأفارقة في الحرب العالمية الثانية.
من عذاب الحافلة، وعذاب الانتظار وسط جحافل المترشّحين، وعذاب قطار الشمال، اعتمد الروائي في بناء هذه المتواليات على أسلوب السرد الكرونولوجي، الذي يوهم بواقعيّة ما يحدث أو ب»أثر الواقع» من جهة، وعلى «التبئير» الداخلي الذي يتيح للقارئ أن يتعرّف على نوايا الشخصيات ومخاوفها وتوجُّساتها بين مدّ وجزر من جهة أخرى؛ وإن كان ذلك في لغة مغرقة في التفصُّح، التي لا تتوافق ووضع الصورة اللغوية لدى أكثر الشخصيات التي تنتمي إلى الفضاء الأمازيغي. لكن المؤلف يريد مراعاة الوحدة اللغوية للرواية والابتعاد عن التهجين اللغوي الذي رُبّما أدخل العمل في متاهات لغوية يتعقّد معها فعل التلقّي.
في لونس، لم يتأقلم إبراهيم الخضار وغيره مع الوضع الجديد، فعلاوة على ظروف العمل الصعبة في مناجم الفحم، كانت لا تفارقهم ذكريات الماضي، و»آلام إحساسهم الممضّ بالغربة التي تزيد وقدتها تعابير الكراهية التي يقرأها المهاجر على وجوه بعض الفرنسيين العنصريين، سواء في العمل أو في الحياة العامة» (ص62). وبعد عامين من هجرتهم إلى الشمال، عاد العمال المهاجرون لقضاء أول عطلة صيفية سنة 1965 في قراهم، جالبين العملة الصعبة للبلاد، ذلك لأنّ أجورهم في مناجم الفحم في فرنسا تضاهي أجور موظفي الحكومة. بعودتهم انتعشت الحياة في القرى، وعرفت الأسواق الأسبوعية رواجاً هائلاً حتى التهبت الأسعار، ودخلتها مظاهر المدنية، أسرة، أرائك، عطور، ملابس أنيقة، مصابيح الإنارة، أجهزة المذياع والتلفاز..
وقد أدى ارتفاع مستوى العيش إلى أن يعيد الترتيب في السلم الهرميّ الاجتماعي لقرية أيت همان، ويحدث فيها بعض العادات والسلوكات المرتبطة بمجتمع الاستهلاك، ويظهر إلى السطح بعض المظاهر الرمزية للثقافة الوافدة، وبالتالي يقلب المواضعات من جديد: «كان أفضل هؤلاء يرعى الغنم أو يعمل مياوماً في البناء أو عاطلاً يطارد الفتيات في فضاءات القرية. أصبحوا الآن رجالاً حقيقيين، يتبجّحون بكلمات فرنسية ينطقونها مشوهة.. لقد نسوا ماضيهم وما كانوا عليه من عوز وفاقة» (ص75).
وفي حوار يجري بينهما يضعنا الروائي أمام وعيين متعارضين للعالم يمثّلهما كلٌّ من مبارك البياض وإبراهيم الخضار. ففي مقابل الوعي الزائف والانهزامي للأول، كان إبراهيم الخضار يمتلك وعياً شقيّاً ومتفجّعاً، لكن حقيقيّاً، مما يحدث حوله من تغيرات ومسوخ، وقد قال: «في الحقيقة يا مبارك، إنّني أشعر بالغربة هنا وهناك. إنّنا نضحك على أنفسنا. لم نعد مغاربة حقيقيّين، ولن نكون أبداً ربع فرنسيين. إننا ضائعون وتائهون هنا وهناك». وفي بعده عن أهله ووطنه، ما فتئ إبراهيم يمضغ ماضيه ويشعر بكراهية لنفسه، حيث يستنشق، سواء في عمله في مناجم الفحم شمال بادوكالي، أو في معمل رونو للسيارات في بيلانكور، «هواء العنصرية والتحقير والإذلال». بإيعاز من مبارك، أخذ إبراهيم يرتاد حانة الأوراس التي تعرّف فيها على جاكلين المولودة في الجزائر من أمٍّ جزائرية وأبٍ فرنسيّ كان يتعاطف مع رجال المقاومة الجزائرية قبل أن ينخرط فيها فعليّاً. أُغرم إبراهيم بجاكي غراماً شديداً، وأحبّته هي، فعرّفته على أمها وإخوانها وزوجها رابح الذي كان يعاملها مثل أبنائه بعد موت أبيها. وحين عاد مبارك إلى القرية، أخبر أم العيد بأن زوجها إبراهيم متزوج بفرنسية. شعرت أم العيد بأنّ إبراهيم تخلى عنها وعن ابنيهما عمر وخديجة، وهما في أمس الحاجة إلى أي مساعدة. وقد استغلّ مبارك حاجة أم العيد إلى المال فحملها على أن تبصم على العقود والدفاتر، وقد باعت له كلّ ما تملك من المنزل والأراضي من غير أن تدري.
مرّت سنوات على أمّ العيد لم تسمع خلالها أي خبر عن إبراهيم، وكانت عرضة للتشفي والشماتة في أوساط القرويين. رغم ذلك، كافحت من أجل تربية ابنيها، عاقدة الأمل على عودة الزوج الغائب ولو بضرّة فرنسية، وأدركت أن مبارك يحقد على زوجها إبراهيم بسببها. هجرت القرية، وفي كوخ من الصفيح بحي الخيام في مدينة أكادير، سكنت مع ابنتها خديجة التي عملت خادمة في منزل قاضٍ، وابنها عمر الذي انقطع عن الدراسة التي نبغ فيها، وصار حمّالاً لأمتعة المسافرين في محطة الحافلات بتالبرجت، بينما هي اشتغلت منظّفة غرف في فندق بالمدينة الجديدة. ولمّا علم الحاج الطيب بقصّتها من أهل القرية، جاء إليها وحملها وابنيها إلى مراكش للعيش في بيته بين أفراد عائلته، وأتاح لعمر أن يتم دراسته حتى تخرّج من كلية الحقوق وعمل محامياً فأستاذاً في الجامعة. تزوّج عمر من ليلى حفيدة الحاج من ابنته خدوج. سافر عمر إلى فرنسا للبحث عن أبيه حتى عثر عليه بمساعدة صديقه الحسين الروداني الذي ضرب مثالاً للمهاجر الطموح الذي بدأ حياته راعياً للغنم في قريته فعاملاً في المناجم، ثمّ أستاذاً محاضراً في جامعة السربون؛ شأنه في ذلك شأن الدكتور محمد السبتي الذي أصبح أكبر الباحثين في المركز الوطني للبحث العلمي بباريس وصاحب ومدير نشر (المهاجر) التي أسسها لإسماع صوت المهاجرين بالفرنسية، مع ملحقين بالعربية والإنكليزية.
حين التقى عمر أباه إبراهيم كان في السبعينات من عمره وخط رأسه الشيب وكان يعمل كعون للحاج عيسى في محل لبيع المواد الغذائية، وذلك بعد أن قضى في السجن نحو عشرين عاماً بعد إدانته ظلماً بقتل أحد مرتادي الحانة من الصرب، فحققوا معه بوحشية و»شهدوا كلّهم ضده، واتّهموه بقتل الشاب الصربي عمداً بدافع العنصرية» (ص247)؛ وبعد أن قضى عدة شهور متشرّداً ومتسوّلاً، وواحداً ضمن متشرّدي العالم الذين يعيشون بمساعدات منظمة إموس المتخصصة في الأعمال الخيرية ومحاربة الفقر والتشرد، وأكثرهم من أوروبا الشرقية هرباً من الجوع والحروب الأهلية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أو من بعض البلدان العربية طلباً للجوء السياسي، بمن فيهم صديقه العراقي ماجد فاضل عباس، الصحافي والمناضل اليساري، الذي قادته معارضته للنظام إلى خارج وطنه، مفضّلاً حياة التشرُّد على أن يعود إليه.
عاد إبراهيم الخضار إلى وطنه، وإلى قريته أيت همان التي وجد أن لا جديد فيها يذكر سوى أعمدة الكهرباء وهوائيات التلفاز، الذي دخل كل بيت وصار النساء لا يعملن أكثر من مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، فلم يعد هناك حرث ولا حصاد ولا دراس.
تصالح إبراهيم مع معارفه فيها نازعاً من قلبه أي غلّ تجاه من أساؤوا إليه واستغلّوا غيبته، بمن فيهم مبارك البياض الذي تنازل له عن المنزل والأراضي التي اشتراها من زوجته أم العيد، وكان يعاني من مرض (السيليكوز) وصار معدماً ومُفلساً بسبب طيش ابنه عبد الله الذي سيغرق في عمليّة هجرة سرية في ما عُرف ب(قوارب الموت).
لقد زهدت فرنسا ومعها أوروبا في المهاجرين بعدما بنت بهم اقتصادها، الذين صاروا «مجرد آلات استنفدت طاقاتها فرمي بها إلى فضاء المتلاشيات، وعادوا إلى بلادهم حاملين أمراضاً مزمنة لا علاج لها..» (ص280).
لقد ختم الروائي روايته بهذه القناعة/ الحقيقة على لسان أحمد الإدريسي، وأكدتها أكثر من شخصية بنفسها، ولم يتدخّل في تسييسها وفبركتها.
فهذه أم العيد تقول في لحظة سخط: «»لقد عصف فيليكس مورا، النخّاس الفرنسي الذي أفرغ كل القرى من الشباب، بحياتها حلوها ومرها» (ص194)؛ وهذا الحاج إيدر يتعجب كيف «كانت فرنسا وبلجيكا وهولندا تستجدي اليد العاملة من المغرب والجزائر وباقي الدول الافريقية، واليوم انقلبت المعادلة»؛ وهذا الحاج الطيب يتحسر على «الشباب يجتهدون الآن للوصول إلى التراب الأوروبي بأي وسيلة»، بل إنّ الروائي لم ينبس، طوال العمل الذي يستغرق أكثر من ثلاثة عقود، ببنت شفة عن الصراع السياسي الذي كان مستعراً بين القصر ومعارضيه، ولا عن الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات النقابية والطلابية التي كانت تعبّر، في جزء كبير، عن سخط عارم في الشارع المغربي.
كان الروائي يريد أن يعطي انطباعاً بأن شخصيات الرواية كانت تواجه تاريخها نفسها بنفسها، ولا يد له عليها. فقط كان يجتهد في أن يُوجِد المكافئ السردي الذي يُعبّر عن هذا التاريخ الذي كانت تكتبه شخصيات هامشيّة منحدرة من واقع بائس، ومتصدّعة تعاني انشطاراً حادّاً بين عالمين وثقافتين.
بين التاريخي والتخييلي، سعى الروائي إلى أن ينشئ حبكة لا تنقطع عن سياقاتها الحقيقيّة، بقدرما لا تفرط في السياقات السردية المجازيّة التي تكفل للأحداث المتناثرة الانضواء في إطارٍ سرديٍّ مُتنامٍ ومحدّد المعالم، وهو يُحقّق ما يسميه بول ريكور ب(الهُويّة السردية) بوصفها بؤرة يقع فيها الامتزاج المثمر والفعّال بين التاريخ والتخييل، عبر آليّات السرد وأنماط بنائه. لم تكن سيرة إبراهيم الخضار إلا نموذجا لسير غيره من المهاجرين الذين لم ينتموا إلى فئة «المُهمّين في هذا العالم»، ولا مكان لهم في التاريخ؛ لكنّ الروائي جعل حياتهم تبدو مهمّةً في عيون القرّاء، بعد أن صار لها مكان بديل داخل الرواية.
كاتب مغربي
عبد اللطيف الوراري
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.