نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي رئيسة منظمة الطوارئ الإيطالية    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التناص: مقاربة نظرية شارحة (7 / 7)
نشر في الراكوبة يوم 18 - 03 - 2015

التناص ليس مصطلحًا شفافًا، فهو ينطوي على تعقيد نظري وتتجلى خطورة استخدامه من قبل النقاد في أن يتحول إلى ما يرغب فيه الناقد أو يتمناه.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: د. مصطفى بيومي عبدالسلام
البنيوية المفتوحة
لست بحاجة إلى أن أكرر المبادئ التي تأسست عليها البنيوية، ولكن أظن أنني بحاجة إلى أن أؤكد على أن البنيوية روجت لفكرة البيوطيقا أو الشعرية. في كتابه "البيوطيقا البنيوية" (1975)، الذي أسهم مع كتابات أخرى في ترويج الوعي البنيوي داخل الأكاديمية الأمريكية، يطرح "كولر" أن البيوطيقا هي نظرية في القراءة ولديها تاريخ طويل يمتد إلى بيوطيقا "أرسطو"، لكن البنيوية أعادت تركيز الانتباه إلى فكرة البيوطيقا بعيدًا عن تلك التقاليد، وكان ما يشغلها هو الأنساق أو الأنظمة، ويستشهد "كولر" بمقولة "جينيت" التي ترى أن الأدب "يشبه أي نشاط آخر للعقل، يتم تأسيسه على مواضعات لا يكون، مع بعض الاستثناءات، على وعي بها".
هذه المواضعات أو الأنساق هي ما شغلت البيوطيقا البنيوية، ولكي يتم وصف هذه الأنساق وتلك المواضعات، فإن البنيوي أو البيوطيقي يقوم بعملية عزل لهذه الأنساق ليصبح الأدب كيانًا مغلقًا على نفسه، ترتد فيه النصوص الأدبية المتنوعة إلى أنساق كلية أو بنية عامة مجردة تشبه كلية العقل الإنساني، لكن "كولر" سرعان ما هجر البنيوية ومفاهيمها إلى مفاهيم ما بعد البنيوية، وتشكك كثيرًا في أن البنيوية التي طرحت مشروع البيوطيقا "لم تنجح في فرض هذا المشروع، أي التقرير التنظيمي للخطاب الأدبي".
أما "جينيت" فهو يؤمن بفاعلية النسق المغلق، ويثق في الطرح البنيوي لفكرة البيوطيقا. هذا، ربما أتصور ذلك، ما دفع "ريتشارد ماكسي"، في تقديمه للترجمة الإنجليزية لكتابه "النصوص الموازية: عتبات التأويل" (1997)، إلى أن يصف "جينيت" بأنه "المكتشف الجسور والمثابر إلى حد كبير في زمننا للعلاقات بين النقد والبيوطيقا".
فيما يخص فكرة التناص، فإننا سوف نعمد إلى ما قدمه "جِينيت" حولها، وحول غيرها من الأفكار التي تتعلق بالعلاقات بين النصوص، في كتابه "طروس: الأدب في الدرجة الثانية". ولا نعتقد أن "جينيت" قد قدم تطويرًا لفكرة التناص، وربما نعتقد أيضًا أن ما قدمه حول فكرة "النصية المتفرعة" ليس تطويرًا لها.
إن "جينيت" يمكن أن يوصف بأنه "بيوطيقي" بالدرجة الأولى، وتصنيفه العلاقات بين النصوص هو تصنيف يقع، فيما أظن، في إطار البيوطيقا، ولا نظن أنه تجاوز البيوطيقا البنيوية إلى شكل مفتوح لها. وربما لا نطمئن كثيرًا إلى ما طرحه "جيرار برنس" في تقديمه للترجمة الإنجليزية لكتابه "طروس" من أن:
"اكتشاف "جينيت" يؤسس مثالاً رائعًا لما يطلق عليه البنيوية المفتوحة"، وليس بالأحرى الإلحاح على "النص ذاته"، وانغلاقه، والعلاقات داخله التي تجعله ما يكون؛ إنه (أي "جينيت") يركز على العلاقات بين النصوص، والطرق التي تعيد قراءة وكتابة نص من النصوص نص آخر، و"النقل المستمر أو الغطاء النصي المتعالى للأدب. ولكن اكتشاف "جينيت" يكون مفتوحًا في وجوه أخرى، فإذا استخدم المعايير(العلائقية) البنيوية لكي يصف الأنواع المختلفة للنصية المتفرعة، فإنه لا يتجاهل الأنواع الوظيفية: المحاكاة التهكمية أو الساخرة والتقليد الساخر أو التحريف، والنقل، التي تنتج جميعًا من التحول النصي، في حين تنتج المعارضة، والكاريكاتير، والتزييف أو الاختراع من المحاكاة؛ ولكن المحاكاة التهكمية والمعارضة يكون كلاهما هزليًا، والتقليد الساخر أو التحريف والكاريكاتير يكون كلاهما هجائيًا، والنقل والتزييف أو الاختراع يكون كلاهما جديًا. وإذا فضل "جينيت" الطريقة المحايثة (السينكرونية) للعرض؛ فإنه لا يتجاهل التعاقب (الديكروني)... وإذا اشتغل بوصفه بيوطيقيًا، فإنه يشتغل بوصفه ناقدًا".
هل ما قدمه "جينيت" في كتابه "طروس" من وصف للعلاقات بين النصوص والأنواع المختلفة للنصية المتفرعة يمكن أن يوصف بأنه انفتاح بنيوي؟ لا أظن ذلك، لأن "جينيت" كان حريصًا فقط على تطوير فكرة البيوطيقا لتشمل العلاقات بين النصوص، هذه العلاقات لم تتجاوز مؤسسة الأدب ذاتها أو نص الأدب. إنني أعتقد أن "جينيت" كان مشغولاً بصناعة قوانين العلاقات بين النصوص، لكن هذا الانشغال كان يؤكد انغلاق مؤسسة الأدب على نفسها. إن انفتاح البنيوية لا يعني الانشغال بعلاقات النصوص فقط، وإنما يعني أيضًا تجاوز النسق المغلق، أي تجاوز مؤسسة الأدب إلى نصوص أخرى غيره، والانفتاح على لعبة الدال، والتأكيد على الطبيعة الخلافية الإرجائية للكتابة، والانفلات إلى فكرة النص المشيد من نصوص أخرى مجهولة الأصل يمكن أن تكون نصوص الثقافة والمجتمع برمتها.
لقد افتتح "جينيت" كتابه "طروس" باستعادة ما طرحه سلفًا في كتابه: "مدخل إلى النص الجامع" (1979) من أن موضوع البيوطيقا "ليس النص المنظور إليه من خلال تفرده أو تميزه (فتلك مهمة النقد على نحو ملائم للغاية)، ولكن بالأحرى جامع النص أو النصية الجامعة، إن أراد المرء ذلك".
هذه النصية الجامعة يمكن أن يقال عنها، كما يتصور "جينيت"، إنها تشبه أدبية الأدب، وهي تعني "مجموع الأصناف العامة والمتعالية (أي أنواع الخطاب وأشكال التلفظ والتعبير، والأنواع الأدبية)، التي ينبثق منها كل نص مفرد".
في كتابه "طروس" يعاود "جينيت" النظر في موضوع البيوطيقا محاولاً أن يقدم تطويرًا لموضوعها أو بالأحرى توسعًا يشتمل على العلاقات بين النصوص، ويصبح موضوع البيوطيقا ليس فقط النصية الجامعة، وإنما يخص أيضًا "النصية المتعالية" أو "التعالي النصي للنص"، التي تم تعريفها من قبل بطريقة أولية بوصفها "كل ما يضع النص في علاقة، سواء كانت واضحة أو خفية، بنصوص أخرى. فالنصية المتعالية تسير أبعد من ذلك وفي الوقت نفسه تفترض أو تتضمن النصية الجامعة، بالإضافة إلى أنواع أخرى للعلاقات النصية المتعالية".
إن إلحاح "جينيت" على ربط موضوع البيوطيقا ب"النصية المتعالية" يكشف عن ثقته بالنص المغلق، فالنصية المتعالية، كما يطرح "جراهام ألن"، "هي نسخة "جينيت" للتناص ... لأنه يرغب أن يوظف هذا المفهوم لكي يحدد الطرق التي يمكن من خلالها أن يتم تأويل وفهم النصوص نسقيًا، ولأنه يرغب في أن يبعد مقاربته عن المقاربات الما بعد بنيوية، فإنه يصوغ مصطلح النصية المتعالية لكي يغطي جميع أشكال الظاهرة موضع البحث، ومن ثم يقسمه إلى خمس تصنيفات معينة".
يمثل "التناص" النوع الأول من أنواع العلاقات الخاصة بالنصية المتعالية، ويشير "جينيت" إلى أنه تم اكتشافه من قبل "جوليا كرستيفا"، لكنه لا يحدثنا عن طبيعة الاكتشاف بل يقرر سريعًا بأنه يعرفه في معنى مقيد للغاية وهو: "علاقة حضور مشترك بين نصين أو عدة نصوص"، أو بعبارة أخرى: "الحضور الفعلي لأحد النصوص داخل نص آخر". إن التناص قد تم إنقاصه واختزاله إلى علاقة حضور مشترك أو حضور فعلى لنص ما داخل نص آخر، ولذلك بدا التناص مرتبطًا بالممارسة النقدية التقليدية، فهو يحيل إلى مفاهيم الاقتباس والسرقة والإلماع أو الإلماح، ولم يعد التناص مقترنًا بالعمليات السميوطيقية للدلالة الثقافية والنصية.
إن "جينيت" حين يعيد توصيف التناص في معنى محدد ومختزل فإنه "يقدم إلينا علاقة تناصية تداولية يمكن تحديدها إلى حد بعيد بين عناصر معينة لنصوص مفردة". وما يقدمه "جينيت" يلغي ارتباط التناص بفكرة النصية أو لعبة الدال أولاً، ثم يقطع صلة المصطلح بفكرة الإنتاجية التي ألحت عليها "كرستيفا" ثانيًا؛ ولذلك لم يحدثنا عن "كرستيفا" و"بارت"، وإنما استدعى "مايكل ريفاتير" وحاول انتقاده؛ وربما أتصور أن استدعاء "ريفاتير" له دلالته، لأن "ريفاتير" يؤمن مثل "جينيت" بفكرة أدبية الأدب والنص المغلق أو النص المكتفى بنفسه، لكن معالجته لفكرة التناص اختلفت من غير شك عن معالجة "جينيت".
والنوع الثاني من أنواع علاقات النصية المتعالية هو ما يطلق عليه "جينيت" "النص الموازي"، وهي علاقة أقل وضوحًا وأكثر بعدًا، وقد خصص لها "جينيت" كتابًا بأكمله أشرت إليه سلفًا، ويقصد "جينيت" بالنص الموازي:
"جميع المعلومات أو البيانات الهامشية والتكميلية التي تدور حول النص: إنه يتضمن أو يشمل (أي النص الموازي) ما قد يطلق عليه المرء العتبات المتنوعة: الخاصة بالكاتب أو المحرر(أي العناوين، والإعلانات عن المنشور، والإهداءات، والعبارات المقتبسة التي يتصدر بها كتاب أو فصل من كتاب، والمقدمات، والملاحظات)، والمرتبطة بالوسائل الناقلة (أي المقابلات مع الكاتب، والملخصات الرسمية)، والعتبات الخاصة (أي المراسلات والانكشافات المدروسة وغير المدروسة)، ويضاف إلى هذه الأشياء الأدوات المادية للإنتاج والتلقي".
والنوع الثالث من أنواع النصية المتعالية هو ما يطلق عليه "جينيت": النصية الشارحة، وهي العلاقة "الملقبة عادة ب"التعليق"، إنها تربط نصًا معين بنص آخر، يتحدث عنه دون الاستشهاد به بطريقة ضرورية (أي بدون استدعائه)، بل أحيانًا بدون تسميته.. إنها علاقة نقدية متقنة". ويشير "جينيت" إلى أنه تمت دراسات كثيرة حول شرح النصوص الشارحة، ولكنه غير متأكد إن كانت هذه الدراسات قد تأملت تلك العلاقة أم لا.
والنوع الخامس من النصية المتعالية يخص النصية الجامعة التي تحدثنا عنها من قبل، وهو نوع أكثر تحديدًا وأكثر تضمنًا، ويشتمل "على علاقة تكون صامتة أو ساكنة بطريقة كاملة، ويتم التعبير عنها بالتنويه النصي الموازي"، أي ما يظهر على صفحة الغلاف مثل: قصائد، أو مقالات، أو رواية، أو قصة، أو غير ذلك. هذه العلاقة تشير إلى الخصوصية النوعية للنص وما يقوم بتحديد هذه الخصوصية ليس النص ذاته، وإنما القارئ أو الناقد أو الجمهور على وجه العموم، "فهؤلاء قد يرفضون الأوضاع المزعومة للنص عن طريق نصه الموازي".
أما النوع الرابع، الذي تم تأخيره عمدًا لأنه المفهوم المركزي الذي يقوم عليه كتابه "طروس"، أو بتعبير "جينيت": "إنه وحده فقط الذي سوف يشغلنا مباشرة هنا"، فإن "جينيت" يطلق عليه مسمى "النصية المتفرعة"، ويقصد به "أي علاقة تربط نصًا ما (وسوف أطلق عليه النص المتفرع) بنص سابق (وبالطبع سوف أطلق عليه النص الأصلي)".
إن هذه العلاقة تختلف عن علاقة الشرح أو التعليق، ويجب النظر إليها من زاوية أخرى، وهي زاوية التحويل. ويضرب "جينيت" مثالاً على عملية التحويل بنصي: "الالياذة" و"عوليس"، فهما عملان متفرعان عن نص واحد أصل هو "الأوديسا". إن النصين قد تم تحويلهما من الأوديسا لكن لم يقدما شرحًا أو تفسيرًا لها.
لكن ما يلفت الانتباه في طرح "جينيت" للنصية المتفرعة هو إلحاحه على فكرة الأصل والفرع، اللاحق والسابق، التي تؤسس إلى حد كبير نوعاً من الهيراركية أو التراتبية التي تجعل الأصل في مرتبة أعلى من مرتبة الفرع، وعلى الرغم من أن "جينيت" لم ينص على ذلك، فإنه يمكن فهمه ضمنًا، يكتب "جينيت":
"إن ما أطلق عليه النص المتفرع هو أي نص مشتق من نص سابق إما من خلال التحويل البسيط، الذي سوف أطلق عليه منذ الآن "التحويل"، أو من خلال التحويل غير المباشر، الذي سوف ألقبه بالمحاكاة".
إن النص المتفرع أو اللاحق يرتد إلى نص أصل أو سابق محدد، لكن هل يرتد إلى نصوص أخرى لا نهائية؟ ويرتد إلى نصوص تنتمي إلى مؤسسة غير مؤسسة الأدب؟ وهل التحويل البسيط والتحويل غير المباشر أو المحاكاة يشير إلى أن النصوص تقوم بعملية تحويل آثار لا نهائية مفقودة الأصل؟ لا أظن ذلك، ومهما حاول "جينيت" أن يقنعنا بأن "النصية المتعالية" بأنواعها الخمس التي حددها هي "أشكال للنصية"، فإن النصية لا تخرج عن مفهوم البنية المكتفية بنفسها والمنغلقة على مركز واحد ثابت، وأقصد بالبنية المكتفية بنفسها هي بنية الأدب على جهة العموم، بنية الأصل والمركز.
وإذا كنا نلمح ظلاً باهتًا ل "كرستيفا" فيما يخص فكرة التحويل، فإن التحويل لا يعبر بطريقة أو بأخرى عن الطبيعة الإنتاجية للنصوص، أي الامتصاص والتشرب، ومن ثم نقل الأنظمة داخل نظام جديد يختلف عن تلك الأنظمة التي حولها. لقد كانت فكرة التحويل عند "جينيت" مرتبطة بفكرة المصدر أو الأصل والفرع الذي يرتد إليه، ولذلك فإن أطروحات "جينيت"، كما يطرح "كومباجنون"، "تستبدل بطريقة بسيطة للغاية التصورات القديمة ل"المصدر" و"التأثير" المحببة إلى التاريخ الأدبي لكي تعين العلاقات بين النصوص".
إن "جينيت" فيما أعتقد، كان مخلصًا للبيوطيقا وتطوير موضوعها ليشمل علاقات النصوص أو بعبارة أخرى: صناعة القوانين الخاصة بالعلاقات بين النصوص. وربما يظن المتأمل لعنوان كتابه "طروس: الأدب في الدرجة الثانية" إنه يطرح طبيعة الكتابة المنقطعة عن كل نقطة أصل وكل نقطة بدء من حيث إن "الطرس" هو رق من الجلد يكتب عليه ثم يمحى ويعاد الكتابة عليه في سلسلة لا نهائية، بالمعنى الذي يجعل من الكتابة مكانًا لارتحال آثار لا نهائية، لكن العنوان الشارح أو النص الموازي، إذا استخدمنا مصطلح "جينيت" نفسه، "الأدب في الدرجة الثانية" لا يشير إلى الانقطاع عن كل أصل أو عن الدرجة الأولى من الكتابة، فهو متصل بها اتصال الفرع بالأصل، اللاحق بالسابق، المعلول بالعلة، يقول "جينيت":
"دعنا نضع التصور العام لأي نص في الدرجة الثانية.. أقصد أي نص مشتق أو منبثق من نص آخر موجود سلفًا".
ولذلك فإنه:
"ليس ثمة عمل أدبي لا يستدعي... عمل أدبي آخر ، وبهذا المفهوم تكون الأعمال جميعًا متفرعة نصيًا".
ربما أتصور أن "جينيت" كان يبعد نفسه عن التصورات الما بعد بنيوية، فهو يعيد ترتيب العلاقات بين النصوص من منظور البيوطيقا، وليس من منظور التبعثر والتشظى، فالنص يعاد تأمل علاقته بغيره من منظور الفرع والأصل، اللاحق والسابق، وليس من منظور يضع النص موضع الانفجار والتبدد، أو على حد تعبير "بارت" إن النص "ينفجر ويتبدد".
أشرت سلفًا إلى أن ثمة اشتراك بين "جينيت" و "ريفاتير" ولذلك تم استدعاؤه وانتقاده من قبل "جينيت"؛ وأشرت أيضًا إلى أن ثمة اختلاف في مفهوم التناص عند كل منهما. يرى "جينيت" أن استخدام "ريفاتير" لفكرة التناص تبدو متسعة للغاية لتصل إلى حد المطابقة بين التناص والأدبية أو بين التناص وفكرة "جينيت" عن النصية المتعالية، وتطبيقه لها، كما يطرح "جينيت"، مصحوبة بالتقييد الجزئي، لأن "العلاقات التي يفحصها دائمًا تهتم بالبينات الدقيقة الدلالية - السميوطيقية، التي يتم ملاحظتها على مستوى جملة، أو مقطع، أو نص قصير شعري على وجه العموم".
لم يهتم "ريفاتير" كثيرًا بفكرة البيوطيقا، وإنما كان اهتمامه منصبًا على النقد العملي، لأنه يعتقد أن "البنية الدالة في أي عمل أدبي هي تلك التي يمكن للقارئ أن يدركها، إنه يرفض البحث البنيوي للنحو العميق في الأدب، ويرفض أيضًا التصور الذي يرى أن جميع الأعمال الأدبية لنوع معين تشترك في البنية نفسها". إن "ريفاتير" يعتقد، مثلما يعتقد النقاد الجدد، في تفرد العمل الأدبي واكتفاءه الذاتي، ولم يكن التناص عنده سوى أداة منهجية للقراءة الدقيقة أو الفاحصة، وكان إلحاحه على دور القارئ في إنتاج الدلالة الأدبية هو تأكيد لفكرة النصية؛ والنصية عند "ريفاتير" تشير إلى "تعقيد الملامح الشكلية والدلالية التي تخص نصًا مكتفياً بنفسه، ومنسجمًا ومتحدًا وتمنح صفة الشرعية لأشكاله".
فكرة النصية عند "ريفاتير" لا تشير إلى لعبة الدال أو الدال العائم، ولكنها تقترن بعملية تفرد النص وتميزه وتعقيده، ومن ثم انغلاقه. إن "ريفاتير"، كما يطرح "كولر"، يرث مفهوم النص في النقد الجديد ويعبر عنه، "فالنصية لأي نص (أي جوهره بوصفه نصًا) هي تعقيد التنظيم الداخلي الذي يضعه بعيدًا عن أي سياق". وإذا كان النص منعزلا عن أي سياق ومكتفيًا بنفسه، فكيف يباشره القارئ من منظور التناص؟
إن "ريفاتير" يعتقد أن "الجوهر الأساسي للخبرة الأدبية هو تلك الحالة المدركة (بكسر الراء) المعروفة بالتناص، فالنص لا يشير إلى موضوعات خارج نفسه، ولكن إلى متناص ما. إن الكلمات في النص تدل ليس بالإشارة إلى الأشياء ولكن بالافتراض القبلي لنصوص أخرى". هنا يتعاظم دور القارئ ويصبح دورًا مركزيًا في اكتشاف المعنى المرتبط بالمتناص أو الافتراض القبلي لنصوص أخرى، ولذلك فإن الظاهرة الأدبية "ليست النص فقط، ولكن أيضًا قارئه وجميع التفاعلات الممكنة للقارئ مع النص".
وإذا كانت الظاهرة الأدبية تشير إلى النص المتفرد ودور القارئ في تفجير طاقاته الدلالية فإن التناص "يجعل النص ما يكونه"، أو بعبارة أخرى: إن التناص هو "نمذجة الإدراك وفك مغاليق النص من قبل القارئ". فالتناص إذن مرتبط بالقارئ وليس مرتبطًا بالنص ذاته المكتفي بنفسه، إنه يشير إلى "عملية ما تختص بعقل القارئ، لكنها عملية إجبارية ضرورية إلى أي تفكيك للشفرة النصية. إن التناص يكمل بطريقة حتمية تجربتنا النصية إنه الإدراك بأن قراءتنا للنص لا يمكن أن تكون مكتملة أو مرضية من غير فحص المتناص".
إن التناص هو خبرة القارئ أو تجربته في قراءة النص أو هو "وعي القارئ بالتنوع البنيوي"، فالقارئ عندما يكتشف أن أي نص يقترح نصاً آخر، فإن "الأخير يزود المتقدم بوسائل تأويله، وتسويغ خصوصياته الشكلية والدلالية، هذا لا يعني أن نقول إن المتناص ينير أو يشرح النص، يوضح أو يعلن ما يكون غامضًا أو متضمنًا فيه. المتناص، بالأحرى، هو نص آخر أو مجموع نصوص أخرى... تشترك مع معجم النص وبنياته الذي نقوم بقراءته".
لم يكن التناص عند "ريفاتير" صفة ملازمة للنصوص، ولكنه صفة ملازمة لعملية تأويله بالمعنى الذي يربطه بخبرة القارئ وتجربته في قراءة النص؛ والمتناص هو نص أو نصوص تشترك مع معجم النص وبنياته. هذا ما يحفظ للنص استقلاله واكتفاءه الذاتي، ويقيه في الوقت نفسه من عملية التبدد والانفجار والتشظي. إن النص لم يصبح لعبة الدال التي تعيد ما كتب سلفًا، ولكنه أصبح لعبة القارئ الذي يجتهد في أن يجد المعنى سواء عن طريق المتناص أو غيره، وأن يفسر غموضه وتعقيداته التنظيمية. إن النص ينطوي على مركز على أصل، هو خصوصياته وتعقيداته التنظيمية. إن ما يجعل "جينيت" قريب الشبه ب"ريفاتير" هو احتفاء كل منهما بفكرة الأصل أو المركز.
إن التناص كما أشرت سلفًا ليس مصطلحًا شفافًا، فهو ينطوي على تعقيد نظري وتتجلى خطورة استخدامه من قبل النقاد في أن يتحول إلى ما يرغب فيه الناقد أو يتمناه، وربما يصبح تأويل النص من خلال فكرة التناص بحثًا عن المصادر والتأثيرات أو البحث عن أصول النصوص. ينبغي أن نضع في حسباننا أن التناص يختلف عن كل ذلك، فهو ليس دراسة النص بوصفه فرعًا لأصل سابق عليه، أو ما يمكن أن يكتشفه القارئ من المتناصات التي تكمن داخله مع الإبقاء على فكرة اكتفاء النص بنفسه وانغلاقه على بنية محددة.
إن التناص هو علامة التحول من البنيوية إلى ما بعدها، وهو قرين فكرة النصية أو الدال العائم الشارد الذي يظل يبحث عن مدلوله ولن يجده مطلقًا، وما يجده هو سلسلة من الدوال العائمة، بعبارة أخرى: هو تدمير لفكرة العلامة المكونة من دال (صوت) ومدلول (معنى ثابت أو متعالي).
إن التناص يضع النص دائمًا في موضع الإنتاج، أي في موضع الدلالة المستمرة وليس في موضع الاستهلاك. إنه يشتغل طبقًا لتصور الكتابة بوصفها حالة من الاختلاف والإرجاء الدائم، أو هي بنية لا مركز لها، ولذلك فإنه يدمر الأبوة وخرافة النسب ويحرص في الوقت نفسه على تبدد النص وانفجاره، فيصبح النص بلا مركز أو أصل.
أستاذ النقد الأدبي المشارك كلية دار العلوم – جامعة المنيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.