فكرة التناص تركز على المفهومية أو الإدراكية، أو بعبارة أخرى: إن أي عمل أدبي، قد لا يتم إدراكه وفهمه بطريقة بسيطة بدون التناص. ميدل ايست أونلاين بقلم: د. مصطفى بيومي عبدالسلام تميز أساسي بين اللغة والكلام أشرت سلفاً إلى أن فكرة التناص قد برزت في أواخر الستينيات، وهي الفترة التي شهدت تحولاً حاسماً في النظرية الأدبية والنقدية في الغرب. وعلى الرغم من ذلك فإن "وارتن" و"ستيل"، محرري كتاب: "التناص: النظريات والممارسات"، يؤكدان أن ظاهرة التناص: "بشكل ما، قديمة قدم المجتمع الإنساني، وبناء عليه، بطريقة بديهية، فإننا يمكن أن نجد نظريات التناص حيثما كان هناك خطاب حول النصوص، وذلك لسببين، أولهما: أن المفكرين كانوا على وعي بالعلاقات النصية. وثانيهما: أن معرفتنا بالنظرية تجعلنا، بوصفنا قراء، متحمسين لإعادة قراءة نصوص المصادر الخاصة بنا على هذا الضوء". وينبغي الإشارة إلى أن "وارتن" و"ستيل" ينظران إلى التناص بمعنى متسع يختلف من وجهة نظرهما، عن المعنى الضيق الذي طرحته "كرستيفا" الذي يشير إلى أن "نظرية التناص تلح على أن أي نص لا يمكن أن يوجد بوصفه كلاً محكماً أو مكتفياً بنفسه، ولذلك لا يوظف بوصفه نسقاً مغلقاً"؛ أما المعنى المتسع فإنه يشير إلى محورين أولهما يتعلق بالكاتب قبل ما يكون خالقاً أو مبدعاً للنصوص، وهو أن هذا الكاتب: "هو قارئ للنصوص ... وبناء عليه فإن العمل الفني يكون متخللاً أو متواشجاً بطريقة حتمية بالمرجعيات والاقتباسات والتأثيرات من كل نوع"، وثانيهما يتعلق بالقارئ: "إن أي نص يكون ممكناً فقط من خلال عملية معينة للقراءة؛ وما يكون منتجاً في لحظة القراءة يمكن إعزاؤه إلى التبادل أو التفاعل للتمظهر المادي النصي الشامل عن طريق جميع النصوص التي جلبها أو حملها القارئ إليه". ولذلك قدما مسحاً لنظريات التناص منذ "أفلاطون" وحتى "باختين" و"كرستيفا" ومنظرين آخرين في القرن العشرين. إن المعنى المتسع الذي يطرحه "وارتن" و"ستيل" لا يشير إلى فكرة التناص وإنما يشير إلى فكرة "المتوسطات القرائية" التي تندمج في عقل الكاتب الذي يكتب أو الذي ينتج النص، والقارئ الذي يقرأ أو يفسر أو يعيد إنتاج النص. ينبغي علينا أن نميز بين الفكرتين، فكرة المتوسطات القرائية تشير إلى عملية تخلق النص سواء كان على مستوى الكتابة أو مستوى القراءة، أما فكرة التناص التي يعدها "وراتن" و"ستيل" بأنها فكرة ضيقة فإنها تشير إلى استراتيجية تأويلية معينة ترتبط بأسس ومبادئ معرفية أشرت إليها سلفاً، فالتناص ليس مقيداً بعملية تكوين الكاتب أو القارئ أو مشروطاً بها، إنه بحث يختص بالعلاقات بين النصوص ولذلك فإن كل قراءة جديدة للنص قد تتضمن أو تنطوي على مجموعة مختلفة من العلاقات النصية، إن "أي تشييد معين لمجموعة ما من العلاقات النصية يكون مقيداً أو متصلاً ليس بموضوع قراءة ما ولكن بشبكة تأويلية (نظام القراءة) التي يتم تشييد وضع الموضوع والعلاقات النصية بمقتضاها". إن فكرة التناص تركز على المفهومية أو الإدراكية، أو بعبارة أخرى: "إن أي عمل أدبي"، يكتب "لوران جيني"، "قد لا يتم إدراكه وفهمه بطريقة بسيطة بدون التناص". هذا المعنى المتسع للتناص الذي يطرحه "وارتن" و"ستيل" يضيف، فيما أتصور التباساً مفهومياً آخر لمصطلح التناص. إنني أعتقد أن التناص هو علامة من علامات التحول في الفكر النقدي، هذا التحول يتم وصفه عادة بالانتقال من البنيوية إلى ما بعدها. وعندما يتم تعريف التناص بأنه: "الدراسة المفصلة لنص ما في علاقته بنصوص أخرى، فإن الأهمية الجذرية للمفهوم في النقد المعاصر، يجب أن تشتغل مع تضمينها الذي ينطوي على أن النصوص هي آثار لنصوص أخرى وتكون آثاراً لنصوص أخرى، وليست بالأحرى وجوداً مكتفياً بنفسه وبنيات موجودة ذاتياً، وتكون متشكلة عن طريق التكرار والتحول لنصوص أخرى". هذا التضمن، الذي يشير إليه "فرو" والذي يعزى إليه الأهمية الجذرية لمفهوم التناص في النقد المعاصر، هو التحول من فكرة النسق المغلق أو الوجود المكتفي بنفسه أو البنيات الموجودة ذاتياً إلى فكرة النسق المفتوح والوجود الذي ينتمي إلى موجودات أخرى والبنيات التي يتم تشييدها من بنيات أخرى. هذا التحول هو أحد التحولات التي يتم تميزها أو توصيفها عادة بأنها: "استبدال لتأكيدات الموضوعية، والدقة أو الصرامة العلمية، والثبات المنهجي، ومصطلحات أخرى تجهر بالعقلانية إلى أبعد حد، بالتأكيد على الشك ، والمبهم الملتبس (غير المحدد أو المتعين) ، واللا تواصلي، والذاتية، والرغبة، والمتعة أو اللذة، واللعب. فإذا كان نقاد الأدب البنيويين يعتقدون أن لغويات "سوسور" يمكن أن تساعد النقد لكي يصبح موضوعياً أو حتى علمياً بطبيعته، فإن نقاد ما بعد البنيوية في أواخر الستينيات وما بعدها ناقشوا أن النقد مثل الأدب نفسه غير مستقر بطريقة متأصلة، فهو منتج للرغبات والدفوع الذاتية. إن مصطلح التناص تم توظيفه من قبل منظري ونقاد ما بعد البنيوية بطريقة مبدئية في محاولتهم لتمزيق أو تحطيم أفكار المعنى الثابت والتأويل الموضوعي". ولكي نستوضح الأهمية الجذرية لمصطلح التناص في النقد المعاصر، فإننا بحاجة إلى خلفية موجزة عن ذلك التحول الذي أشرت إليه أعلاه. نشأت البنيوية، في الأصل، من خلال التعارض مع الظاهراتية التي برزت من خلال أعمال الفيلسوف "إدموند هوسرل" في أوائل القرن العشرين. لقد بحثت الظاهراتية "تجنب الوقوع في الفصل بين الذات والموضوع، الوعي والعالم، بالتركيز على الحقيقة الظاهراتية للموضوعات التي تبدو للوعي. فيمكن لنا أن نعطل أو نوقف الأسئلة عن الحقيقة النهائية أو قدرة المعرفة بالعالم، ونصف العالم كما يكون معطى للوعي". إن المقاربات الظاهراتية للمعرفة كانت تسعى، كما يطرح "ستييل"، إلى "أن تجد أصل المعنى في الذات"، أو كما يطرح "هاراري" أن تلك المقاربات "تدعي أنها تمنح الوصول المباشر للمعنى من خلال التحليل الوصفي لما نختبره أو ندركه أو نتلقاه". إن المعنى يكمن في تجربة الذات أو تلقيها للعالم أو وعيها به. أما البنيوية فقد "تخلت عن الذات وفعل التأويل ... والمعنى يكمن في اللغة ذاتها". لقد أزاحت البنيوية الذات عن مركزها، ولكن هذه الإزاحة لم تكن سوى نوع جديد من التمركز، أي مركزية اللغة أو مركزية البنية: "فبدلاً من وصف التجربة، فإن الهدف كان تعيين البنيات الكامنة/ الثاوية التي تجعلها ممكنة، وبدلاً من الوصف الظاهراتي للوعي، فإن البنيوية التمست تحليل البنيات التي تشتغل بطريقة لاواعية (مثل: بنيات اللغة والنفس والمجتمع). وبسبب الكيفية التي يكون المعنى منتجاً من خلالها، فإن البنيوية، عادة، ... تعاملت مع القارئ بوصفه مجموع الشفرات الكامنة/ الثاوية التي تجعل المعنى ممكناً". إن التعارض بين البنيوية والظاهراتية يمكن أن يرى بوضوح من خلال فكرة الإزاحة والإحلال، إزاحة الذات عن مركزها، أو تدمير مركزية الذات وإحلال مركزية اللغة أو البنية أو الصوت، أو كما يطرح "إيجلتون"، إن البنيوية لديها مشكلة مع الذات الفردية كما يقال، فإن ذلك يعني أن: "الذات تم القضاء عليها بطريقة فعالة، مختزلة إلى الوظيفة لبنية موضوعية ... إن الذات الجديدة هي النسق ذاته في الحقيقة". لكن لا بد من الانتباه إلى أن الظاهراتية والبنيوية رغم تعارضهما، فإن ثمة شيء مشترك بينهما وهو وضع "الموضوع" بين أقواس، فيتم من غير شك تجاهل الشروط المادية والتاريخية لإنتاجه أو إعادة إنتاجه، ويتم اختزاله (أي الموضوع) إلى تجسيد خالص للوعي كما في حالة الظاهراتية، أو إلى نسق مغلق من القواعد كما في حالة البنيوية. إن البنيوية تهرب من التاريخ إلى اللغة أو إلى النسق المغلق. ويبدو أن الحداثة الغربية قد جلبت هذا التصور إلى الوجود، فالبنيوية، كما يشرح "إيجلتون": "بدأت في الحدوث عندما أصبحت اللغة انشغالاً متسلطاً على عقل المثقفين، وحدث هذا بدوره بسبب الإحساس أو الشعور بأن اللغة في أوربا الغربية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانت تعاني من آلام أزمة عميقة. فكيف كان على المرء أن يكتب في مجتمع صناعي حيث أصبح الخطاب مختزلاً أو منقوصاً إلى مجرد أداة للعلم والتجارة والإعلان والبيروقراطية؟ وأي جمهور كان على المرء أن يكتب له مهما يكن الأمر بوصفه جمهوراً مشبعاً بالقراءة العامة المقدمة إليه من ثقافة جماهيرية نهمة للربح ومسكنة؟ وهل كان ممكناً لعمل أدبي ما أن يكون في آن واحد صناعة فنية وسلعة في السوق المفتوحة؟ وهل كان ممكناً أن نشارك بأية كيفية في الإيمان العقلاني أو الإمبريقي الواثق للطبقة المتوسطة في منتصف القرن التاسع عشر بأن اللغة ثبتت نفسها في العالم فعلياً؟ وكيف كانت الكتابة ممكنة دون وجود إطار من الاعتقاد الجماعي المشترك لجمهور المرء، وكيف كان ممكناً أن يتم إعادة ابتكار إطار مشترك مثل هذا في ظل الاضطراب الإيديولوجي للقرن العشرين". هذه الأسئلة التي يطرحها "إيجلتون" تشكل فيما أظن الشروط التاريخية والمادية للكتابة الحديثة، وهي التي يعود إليها وضع مشكلة اللغة على النحو الذي يعبر من غير شك عن أزمة اجتماعية، تلك الأزمة دفعت الكتابة إلى الانكفاء على ذاتها، "في فعل نرجسي عميق، لكنها منزعجة ومغلفة بجرم اجتماعي يتمثل في عدم جدواها الخاص؛ والتوطأ بطريقة يتعذر اجتنابها مع هؤلاء الذين اختزلوها وأنقصوها إلى سلعة غير مرغوبة، ومع ذلك فإنها تجتهد لكي تحرر نفسها من تلوث المعنى الاجتماعي". إن البنيوية يمكن رؤيتها ضمن إطار مشكلة الإحساس باللغة التي أشرت إليها سلفاً، وهي تخص معارف متباينة في العلوم الإنسانية، وما يجمعها تحت ذلك المسمى على وجه العموم هو استخدام لغويات "فردينان دي سوسور"، أو تطبيق النظرية اللغوية عند "سوسور" على موضوعات ومعارف ونشاطات أخرى غير اللغة. إن البنيوية في عبارة مختصرة وأثيرة طرحها "فريدريك جيمسون" هي: "إعادة التفكير في كل شيء مرة ثانية بأطروحات علم اللغة". في محاضراته عن علم اللغة العام التي ألقاها ما بين سنة 1906 وسنة 1911، ونشرت بعد وفاته عام 1916، يميز "سوسور" تميزاً أساسياً بين "اللغة" "والكلام"، ويعده تمييزاً بين "ما يكون اجتماعياً وما يكون فردياً، وبين ما يكون جوهرياً وما يكون تابعاً على وجه التقريب". إن ما يكون اجتماعياً وجوهرياً هو اللغة أو النظام وما يكون فردياً وتابعاً هو الكلام، ولذلك فإن موضوع اللغويات هو اللغة التي تجعل الكلام ممكناً، فاللغة "هي الجانب الاجتماعي من الكلام، وتقع خارج نطاق الفرد الذي لا يستطيع مطلقاً أن يخلقها أو يغيرها. إنها توجد فقط بحكم كونها نوعاً من التعاقد بين الأفراد في مجتمع ما". أستاذ النقد الأدبي المشارك كلية دار العلوم – جامعة المنيا