المفكر السوري جاد الكريم جباعي يقدم تصورا معاصرا للمجتمع الديمقراطي في كتابه 'من الرعوية إلى المواطنة'، ويكشف النظام الاستبدادي في بلاده. العرب حامد العظم دمشق - في كتابه الجديد الموسوم ب"من الرعوية إلى المواطنة"، الصادر عن دار "أطلس للنشر" ودار "الفرات"، يقدم المفكر السوري جاد الكريم جباعي تصورا معاصرا عما يجب أن يكون عليه شكل المجتمع الديمقراطي والدولة المدنية وخصوصا في سوريا التي تشهد الانتقال من الدكتاتورية إلى دولة الحرية والعدالة في ظل الثورة القائمة على أشدّها. يهدي جاد الكريم جباعي كتابه "من الرعوية إلى المواطنة"، إلى شبان وشابات سوريا الذين شاركوا في الثورة ويمهد بعدها لرؤية دولة المواطنة عبر شرح المفاهيم المختلفة المرتبطة بتطور الدولة المعاصرة والعلاقة مع الإثنيات المختلفة والانتماءات العقائدية. والحقيقة أن مفاهيم المواطنة والدولة المدنية مازالت كلها ضبابية في المنطقة العربية ذلك إثر التاريخ القمعي الذي شهدته الدول العربيّة وخصوصا سوريا، ما جعل السلطة تندمج مع الدولة ومع الأقلية الدينية ليظهر نظام سياسي طائفي قائم على هيمنة المصالح الأقلية. مفهوم الهوية يتناول جاد الكريم جباعي مفهوم الفرد وعلاقته مع الدولة بالإضافة إلى دور الدولة والمجتمع المدني، ويعيد طرح السؤال الماركسي "ما العمل؟" الذي طرحه كل من تشرتشنيفسكي ثم لينين عبر تحويله إلى "كيف العمل؟". فمنهجية الوصول إلى دولة القانون والمواطنة ليست غريبة أو عصيّة على الفهم، وتقوم في الأساس على القطيعة مع السرديات التي أثبتت عدم قدرتها على إنصاف الفرد متمثلة بالأنظمة الشمولية والماركسية والاشتراكية والإسلامية، وينتقد دولة البعث والأحزاب ذات الصيغة الإحيائية بوصفها دول ذات شكل رعوي مرتبطة بالسيطرة الأقلية على السلطة وأجهزة الدولة، إذ لا تقف الدولة موقفا متساويا من الأفراد، بل تقوم على أساس الانتماء القبلي والطائفي، بالإضافة إلى الإضاءة على مفهوم الهوية سواء الفردية أوالمجتمعية بوصفها قائمة على الحضور الآن-هنا، والتفرقة بينها وبين الهويات القائمة على المساواة لا الاختلاف، كحالة القومية العربية التي تستثني الأثنيات الأخرى، فهي تحوي في جوهرها جذورا للدكتاتورية. فمفهوم الهوية قائم على أساس الاختلاف في علاقة جدلية ديالكتيكية، وينسحب ذلك على مفاهيم النسوية والنظرة الذكورية المهيمنة على مشاريع المساواة، بوصف الأنثى تسعى إلى مقاربة نموذج وضعه الذكر، وليس نموذجا تمّ وضعه بالاتفاق. يشرح بعدها جباعي في الباب الأول بعنوان "مفاهيم تأسيسية" العلاقة بين المساواة والاستقلال الذاتي ودور الملكية الخاصة بوصفها مفهوما لا يرتبط بالدولة بل بشكل ترعاه الدولة، كذلك التركيز على مفاهيم رأس المال الاجتماعي والدين والعصبيات المذهبية بوصفها المرجعية التي تهدم فكرة الدولة المدنية وتجعل مفاهيم المواطنة غير قابلة للتحقيق. مقارنة مفاهيمية يؤسس جباعي للاختلاف بين مفهومي الرعوية والمواطنة عبر إفراد فصل كامل لكل منهما بوصفهما تصورين مختلفين للمجتمع والعلاقات التي تحكم تكوينه. فالرعوية قائمة على أساس بطركي، وتحكم العلاقات في المجتمع الرعوي أفكار القرابة والانتماء، لتبرز بعدها ملامح البنى البطركية في الصيغة الرعوية المتمثلة في هيمنة أفكار الأسرة والقبيلة وتحوّل الرؤى والتفسيرات المختلفة لكافة مظاهر الحياة إلى مقدسات مرتبطة بالعقيدة "كالإسلام والمسيحية"، وتبرز صيغ النسل والانتماء الأقدم بوصفه الأقوى لارتباطه بالأصل ذي الصيغة القدسية، ما يمنع الفرد من التأسيس لحضوره وهويته المختلفة إذ يتعرض للنفي ويصبح لاعبا خارج الجماعة. مفهوم الفرد وعلاقته مع الدولة وفي حديثه عن الرعويّة المحدثة يرى جباعي أن القهر والهدر هما الأساس في تمكين هذا الشكل بوصفهما يجرّدان الإنسان من إنسانيته وحريته وكرامته وينسحب ذلك على مؤسسات الدولة القمعية من أمن ومخابرات ودورها في ترسيخ شكل الدولة، هذا ولا يخفى على القارئ الإشارات الواضحة إلى النظام السوري وجهوده في تدمير قيم المواطنة والحرية وترسيخ مقولات العنف والتسلط. في الفصل الثاني من الكتاب يتوسع جباعي في شرح مفاهيم المواطنة ويؤسس لها ويعرفها في ظل تعدد التعريفات التي تضبطها ثم وضع تعريف المواطن والمجتمع المدني، في محاولة لإزالة اللبس المرتبط بهذه المفاهيم، ليشرح بعدها البيئة القانونية الحاضنة للمواطنة وتطبيق مفاهيمها ضمن المجتمع في إشارة إلى الدستور والتشريعات المرتبطة بحقوق الأفراد على اختلافهم جنسا وانتماء، ويحدد بعدها جباعي الحقوق التي يمتلكها المواطن في ظل دولة المواطنة بوصفها الوجه السياسي لحقوق الإنسان، ودور الدولة في دعم هذه الحقوق وجعلها متوافرة لمواطني الدولة. ويتم ذلك في البداية عبر إدراك الفرد لذاته ودوره ضمن دولة القانون والمجتمع المدني. المواطنة ليست حالة تلقائية حسب جباعي بل لا بدّ من تربية وأشكال معرفية ترسخ مفاهيم المواطنة ليتمّ الانتقال إليها طوعا، وهذا ما يسميه جباعي بالأخلاق الطوعية، عوضا عن أخلاق الطاعة المرتبطة بالدولة الدكتاتورية والخوف من القانون بوصفه عدوا للفرد، وعرّج بعدها جباعي على الدساتير السورية المتعاقبة وحضور مفاهيم المواطنة فيها كشكل قانوني لكنها غائبة عند الممارسة السياسية، إلا أن المعضلة تكمن "بوصفها دساتير ناقصة لدول ناقصة" حسب تعبير جباعي.