"كل ما هو مطلوب لكي ينتنصر الشر هو أن لا يفعل الأخيار شيئاً" إدموند بيرك الخط الفاصل بين النشاط الإجرامي والنشاط المشروع لا تخطئه عين لقد قرأت تصريحاً لمولانا ياسر محمد أحمد في أحد الصحف السيارة وأظنها صحيفة (الوطن) حول محاكمة الأستاذين أبو عيسى ومدني، وقد استدل في ذلك التصريح على جدية الاتهام بأن الاتهام قد قدم ثمانية شهود وعدداً من المستندات. وهذا صحيح، ولكن جدية الاتهام لا تًقّيم بعدد الشهود، بل بوزن بيتهم. ولو نظر مولانا ياسر للصحيفة التي أدلى فيها بذلك التصريح لوجد على يسار تصريحه تصريحاً آخر من الشاهد الذي قدمه للمحكمة باعتباره خبيراً محايداً، لا مصلحة له في الدعوى وهو مازال يلاحق المتهمين باتهاماته في الصحف، حتى بعد إسقاط الاتهام. فأي حياد هذا الذي يجعل الشخص ملكياً أكثر من الملك. لن ندخل في جدل حول ما أثبت الاتهام وما فشل في إثباته ولا في المستندات التي تقوم كلها على أفلام مصورة لا صلة لها بأطراف الدعوة، ولكننا نسأل لماذا يحتاج مولانا ياسر في الأساس، لأن يدافع عن جدية الاتهام؟ وكم مرة اضطر لذلك في الدعاوى العديدة التي مثل الاتهام فيها؟. الخط الفاصل بين النشاط الإجرامي والنشاط المشروع لا تخطئه عين، ولا يختلف حوله اثنان. فالناس قد يختلفون في المحاكمات بين من مصدق ومكذب لقيام المتهم بما هو منسوب له من أفعال، أو حول مناسبة العقاب الموقع مع خطورة الجريمة. ولكنك لن تجد انقساماً أبداً حول ما إذا كان ما قام به المتهم من أفعال يشكل جريمة مستحقة العقاب، أم أنه فعل عادي من حق أي شخص أن يقوم به. السبب في ذلك أن التجريم يجب فقط أن يطال الأفعال التي تهدد مصلحة المجتمع والتي يستهجنها الشخص العادي ويتعرف عليها باعتبارها أفعال مخالفة للقانون دون حاجة للبحث في المراجع القانونية، لأن القانون يتفق مع الفطرة السليمة. الأفعال التي لا تهدد مصلحة المجتمع، لا تجرم وحتى ولو كانت تهدد مصالح خاصة مشروعة بدون وجه حق، وإن جازت مقابلتها بالقانون المدني بالتعويض متى ما لجأ المتضرر إلى القضاء مطالباً بذلك. ولكن القانون الجنائي لا يتدخل إلا إذا كان ذلك التهديد للمصالح الخاصة يخل بالسلام العام أو كانت المؤسسات التي تم تهديدها هي جزء من الهياكل الدستورية للدولة . لا يستقر الحال بمجتمع ما لم يستقر القانون فيه، واستقرار القانون لا يعني فقط استقرار القاعدة القانونية، بل يعني في المقام الأول أن تكون تلك القاعدة معلومة ومقبولة للجميع ومن الجميع. أن يتم اتهام خمسة من الشخصيات العامة المعروفة للجميع والتي لها إسهامات في العمل العام، في عام واحد بارتكاب أفعال معاقب على ارتكابها بأقصى العقوبات المعروفة في القانون، فهذه مشكلة، لأن ذلك لابد أن يعني أحد أمرين: إما أن المجتمع بأسره لا يحترم القانون، بدليل أن شخصيات رائدة فيه تخالف ذلك القانون، بارتكابها لأفعال تستوجب أقصى العقوبات، وهو الأمر الذي ينتقص من المجتمع إذا كان القانون متفقاً مع الفطرة السليمة، أو من القانون لو لم يكن كذلك. فإذا لم يكن هناك عيباً في القانون، ولا في المجتمع، فإن هذا السيل من الاتهامات يدفع للقول بأن أجهزة تنفيذ القانون لا تقوم بواجبها على النحو المطلوب. لا تنتهي إشكالات تلك الاتهامات هنا، فهناك حقيقة أخرى تلفت النظر ولا تساعد على فهم هذا السيل من الاتهامات، وهي أن أي من تلك الاتهامات البالغة الخطورة لم يتم الفصل فيها بواسطة المحكمة المختصة، لأن جميع تلك الاتهامات تم إسقاطها إما بقرار رئاسي قبل تقديم المتهم إلى المحاكمة (الإمام/ مريم)، أو بقرار من وزير العدل بموجب سلطته تحت المادة 58 من قانون الإجراءات الجنائية (إبراهيم الشيخ/أبو عيسى/مدني). هذا في حد ذاته يعني أن الأجهزة العدلية قد اتخذت إجراءات كان الأوجب عدم اتخاذها، إما لعدم كفاءتها، أو لأن القانون الذي بموجبه تم توجيه تلك التهم هو قانون من الغموض بحيث جعل أجهزة الدولة لا تستطيع بالتحديد معرفة الأفعال التي تقع تحت طائلته. ومما يزيد الأمر غموضاً أن كل هذه الاتهامات تم تحريكها بواسطة جهاز الأمن، والذي يفترض أن يكون دافعه في ذلك هو مقاومة الأفعال التي تُعِّرض أمن الدولة للخطر، وتم إسقاطها بواسطة سلطات لم تُمنح لمن له سلطة ممارستها، إلا حماية لأمن الدولة. قد لا يكون الأمر بهذا الغموض لو أن إسقاط التهمة قد صاحبه نوعاً من التبرير أو المحاسبة، ولكن ذلك لم يحدث، ففي كل مرة انتهت المسألة بإسقاط اتهامات خطيرة، دون أن تتم تبرئة المنسوب له القيام بها، ولا محاسبة من اتخذ تلك الإجراءات في مواجهته بسببها. نحن نتحدث عن معارضين للحكومة يتخذون مواقفاً سياسية مخالفة لموقفها، وهذا يعني أحد أمرين: إما أن يكون ما قاموا به من أفعال ومواقف هو جزء من العمل السياسي المعارض الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من الحياة السياسية لجميع المجتمعات الديمقراطية. أو أنه تخطى تلك الحدود إلى الدعوة إلى العنف سبيلاً لمقاومة السلطات الدستورية. فإذا كانت الأولى فإن الإجراءات التي اتخدت في مواجهتهم تكون مستوجبة للمحاسبة، وإذا كانت الثانية فإن إسقاط الاتهام في مواجهتهم يكون غير صحيح. كون أننا نعيش أزمة سياسية عميقة لا تحتاج منا لتذكير ولا يحتاج من غيرنا لمغالطة، لأنه لو لم نكن نعيش أزمة سياسية لما كان هناك سبب، لأن يدعو رئيس الجمهورية لحوار. ولو كنا نعيش نظاماً مستقراً يتيح الحريات السياسية المطلوبة للتجمعات السياسية المختلفة، لما كانت الحرية السياسية هي أحد الركائز الأربعة التي أشار رئيس الجمهورية إلى ضرورة تحقيقها في دعوته للحوار. أن توجه أجهزة عدلية في أربع مرات مختلفة، لأشخاص مختلفين، اتهامات بسبب نشاطهم السياسي تصل عقوبتها للإعدام، ثم لا تتم إدانة أي منهم بارتكاب أي جريمة، فهذه مسألة يجب أن تدفع جهاز النيابة العمومية إلى أن يعيد النظر في الطريقة التي يتعامل فيها مع الدعاوي ذات الصبغة السياسية. وعلى صعيد آخر فهي أيضاً مسألة يجب تدفع الجهاز التشريعي، لأن يعيد النظر في اللغة المستخدمة بالنسبة لتجريم الأفعال ذات الصبغة السياسية. نبيل أديب عبدالله المحامي