في خواتيم عام 2011، أي قبل ما يزيد عن ثلاث سنوات، راج أن نجل الإمام الصادق المهدي، عبد الرحمن، سيعيّن مساعداً للرئيس عمر البشير. وقتها انقسم الناس فريقين؛ فريق يرى أنه لا يعدو أن يكون خبراً مفبركاً أو شائعة لها أغراضها، وفريق آخر لم يستبعد الخطوة، لجهة اللقاءات الكثيفة التي كانت تتم في ذلك الحين بين الرئيس البشير والإمام الصادق نفسه. أحد أعضاء الفريق الذي انتصر في النهاية قال وقتها: "خبر تعيين شخص في منصب مهم في الحكومة دائما يبدأ بشائعة"! أول تداعيات خبر إعلان نجل الصادق مساعدا للرئيس رسمياً أن توجهت الأضواء تلقاء الجنرال، بعد أن كانت مسلطة من قبل وسط أبناء الإمام على المنصورة، سيما عندما يتعلق الأمر بالسياسة. فالمساعد الحالي للرئيس منذ صباه بدا كمن هو منصرف عن لغة (ساس يسوس) إلى الفروسية والبيادة، رغم ما علق به منها، كونه من بيت زعامة. بالطبع فإن الفروسية وركوب الخيل أيضا كانتا تقليداً متبعاً في أسرته، كما أنه صاحب بسطة في الجسم الأمر الذي أهله للتميز في هذه الضروب، خلا ذلك، ربما لم يعرف عنه الناس أكثر من أنه ابن الصادق، ورث عن أبيه هيبة ارستقراطية في بنية رياضية. 1 في خور طقت حسناً، من المعتاد أن تتفتح شخصية أي سياسي في المرحلة الثانوية، وها هو عبد الرحمن في مدرسة خور طقت الثانوية- إحدى المدارس القومية ذائعة الصيت وقتها- بعد أن أتاها منقولا من مدرسة أم درمان الثانوية، طقت تبعد أكثر من عشرة كيلومترات عن مدينة الأبيض، جاء إليها في 1984 تسبقه الكنية (ابن الصادق المهدي) والغريب أن والده كان حينها رئيس وزراء أطاحه انقلاب، استقبلته أروقة المدرسة وداخلية دوليب على أنه حدث مهم فلم يخيب ظنهم وبزّ الجميع في الرياضة والكديت. سألت أحداً ممن زاملوه عن عبد الرحمن في خور طقت فقال: "هالة ابن الصادق كانت طاغية على أحاديث الطلاب عنه". "من كانوا قريبين منه مسموح لهم التندر في بنيته الجسمانية الفارهة، وقياس حذائه الذي لا يطابقه أحد في ضخامته"، كما يقول زميله، لذا تصدر قائمة الرياضيين، حتى أنه كان الأول في سباق الضاحية إلى أن غادر خور طقت. وعبد الرحمن يومها لم يسمع عنه ممارسته نشاطا سياسيا، داعما لحزب الأمة -ولو سرياً - لأن النشاط الطلابي في عهد الرئيس نميري كان محظوراً، إلا أن محدثي أكد أن الجميع كانوا يشهدون له بالكرم ولين المعشر. 2 * حلم وتربص السياسة الكلية الحربية كانت بمثابة حلم عبد الرحمن الأوحد، لما في البزة العسكرية من ارستقراطية تتناسب مع سليل آل المهدي، ومع ميوله للفروسية والرياضة، إلا أن تقاليد الكلية ووجود والده في خانة المعارضين حرمه من الكلية الحربية السودانية على ما يبدو، ليسافر ويلتحق بالكلية الملكية الأردنية الهاشمية العسكرية في بادرة نادرة جداً، وهي أن يدرس طالب حربي خارج السودان، وعلى حسابه الخاص، ولكن هذه الطريقة وفرت له تحقق الحلم، وأصبح ضابطاً في صفوف الجيش السوداني على الرغم من أنه لا يتشارك مع زملائه الضباط كلمة (دفعة) وذكريات الجزاءات ومقالب (التعلمجية) والهروب ليلا للحصول على التبغ الممزوج بماء العطرون، إلا أنه كان ضابطاً مميزا وبالذات في البيادة، حتى أنه اشتهر بقوة التحمل والصبر. ويحكى أن (الجكة) الصباحية التي تنهك الضباط كان عبد الرحمن يعدوها على ظهره، أي يركض للخلف دون أن يشعر بالتعب، إلا أن حلمه العسكري حرمه من ميزة تمتع بها أقرانه ممن التحقوا بالجامعات وهي ممارسة السياسة، التي كانت تعج بها الجامعات وقتها، وبالذات أن الديمقراطية حطت رحلها لبرهة في ذلك الوقت.. قوانين الكلية الحربية والخدمة العسكرية منعته من السياسة، فها هو محروم منها في الثانوي حيث تتضح الملكات والقدرات والميول السياسية، وفي فترة الجامعة حيث تنضج، إلا أن السياسة التي لم يتعاطاها في وقتها لمختلف الأسباب لم تترك عبد الرحمن في حاله وتربصت به. 3 السياسة تضع حداً للحلم انقلاب الإنقاذ وقع في 1989، وعبد الرحمن بلغ رتبة الملازم الأول ولم يكمل سنة.. وبعد أشهر قليلة أحيل إلى التقاعد ضمن موجة الصالح العام.. كيف لا وهو ابن رئيس الوزراء المنقلب عليه هذه المرة أيضاً، وانتماؤه لحزب الأمة لا شك فيه؟! إذن ها هي السياسة تضع حداً لحلمه الذي حققه بمجهود جبار، إلا أنه سيعود لاحقاً ويتشبث به.. الأيام والشهور التي تلت الانقلاب لم يفعل فيها شيئاً يذكر، ووالده وقتها بين المعتقلات والإقامة الجبرية، والحزب يتطلع لقيادة ملهمة في مرحلة حرجة.. بيد أن موقفاً بطولياً في خانة العمل المعارض ينتظر الجنرال العسكري القح، ويتناسب مع تأهيله وقدراته وميوله. 4 * مغامرات ومبادرات الإمام الصادق لا يجد مناصاً من معارضة نظام الإنقاذ من الخارج، ولكن كيف الخروج؟ والطرق ملئت أمناً كثيراً ورصداً، والمخاطرة غير مأمونة العواقب؟! ينبري للمهمة عبد الرحمن، فيخطط ويدبر ويوفر وسائل تنفيذ (تفلحون). مع غروب ذلك اليوم كان عبد الرحمن ممسكا بمقود العربة (البوكس) وإلى جواره والده الإمام الصادق وسلاحه الكلاشنكوف تحت المقعد.. بعد ساعات نجحت الخطة وبلغ الركب حدود دولة أريتريا، وزال الخطر. تولى عبد الرحمن قيادة جيش الأمة بعد فترة وجيزة من وصوله إلى الحدود السودانية الأريترية، بعد أن أزيح قائد العميد أحمد خالد المالكي، الذي قبل التنازل لابن الإمام.. هنا ظهر كضابط حسن التدريب قادر على تحمل مصاعب القيادة بجانب شخصيته المغامرة والمبادرة والمتحمسة جدا للعمل العسكري.. من عاصروه قالوا إنه كان جريئاً جداً لدرجة يعدها البعض تهوراً، كما أنه استطاع أن يحصل على دعم لجيش الأمة مستفيداً من علاقات الحزب مع بعض الدول وخاصة ليبيا القذافي الذي كانت تربطه علاقات قوية مع قيادات حزب الأمة وفي مقدمتهم مبارك الفاضل المهدي. ومن أشهر العمليات التي نفذها جيش الأمة تحت إمرته قطع طريق بورتسودانالخرطوم في 2000. 5 * اعتقالات وجيش محلول لم تترك السياسة عبد الرحمن ما تركها، وها هو دون أن يشارك فعلياً في أي مفاوضات يمتثل لقرار القيادة السياسية بالعودة إلى أم درمان وحل جيش الأمة.. في ما بعد لم يصمد عبد الرحمن أمام مطالبات أفراد جيش الأمة بحقوقهم المادية الأمر الذي جر عليه انتقادات جمة، وعندما كثرت عليه المطالبات استنجد بالقيادة السياسة للحزب لتداركها، ففعلت بعد أن شق نفسها. حسناً، عاد حزب الأمة بعد أن تصدى لقيادة أحزاب المعارضة.. فطالت الاعتقالات والملاحقات قيادات الحزب. من بيت الإمام اعتقلت مريم ورباح أكثر من مرة، إلا أنه لم يتعرض لذلك، بل كانت له صداقات مع قيادات أمن النظام؛ ومن بينهم الشهير صلاح قوش.. يقال إن هذه الصداقة ساهمت في عودة أخيه بشرى إلى صفوف الأمن. 6 * "حق أعيد لصاحبه" دخلت البلاد أجواء الانتخابات، في 2010، وعاشت حالة انتخابات حقيقية، ندوات ونشاط حزبي وملصقات في الشوارع، وفي الليالي السياسية عندما يصعد الإمام إلى المنبر في مرات كثيرة كان ابنه عبد الرحمن يشاهد إلى جواره في هيبة وشجاعة، ممسكا بعصا قصيرة تجدها في أيدي العسكريين، إلا أنها هيبة لا تؤهله للتقدم نحو المايكرفون ربما ليخطب في الناس خطبة سياسية.. ربما يكتفي بذلك الدور الذي يؤديه على أكمل وجه، مثلما يؤدي الوالد دوره على النحو المرجو. لم يعرف عن عبد الرحمن موقف شخصي من نظام الإنقاذ سوى موقف الحزب العام، الأمر الذي ساعده في خلق صداقات مع بعض قياداتها، وكما أشرنا في مقدمتها الفريق صلاح عبد الله قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق، وهذا ما يفسر وجوده في بعض لقاءات والده مع رئيس الجمهورية أو أي مفاوضات طرفها المؤتمر الوطني دون أن تكون له صفة حزبية تؤهله لذلك. في أواخر عام 2010 أثمرت علاقات عبد الرحمن مع بعض قيادات المؤتمر الوطني بأن عاد إلى الجيش ولكن برتبة عميد هذه المرة. كانت ثمة احتجاجات من قبل عسكريين ومن مدنيين أحيلوا للصالح العام على هذه الخطوة، الناطق الرسمي باسم الجيش الصوارمي خالد سعد كان رده مقتضباً على المحتجين إذ قال: "حق إعادة المرفوتين من الجيش مكفول للقائد العام للقوات المسلحة وليس مطالباً بإبداء أسباب".. الحزب وعلى لسان الصادق بارك الخطوة، وأشار إلى أنه حق أعيد لصاحبه؛ فعبد الرحمن رفت من الجيش دون جريرة غير موقف والده وحزبه السياسي، وأعيد إليه. إذن، حلم العسكرية الذي انقطع بسبب السياسة يتواصل من جديد، ووجه بأن يكون مكان عمله فرع الرياضة العسكرية وهي وحدة ملفها نظيف في ما يتعلق بالانقلابات العسكرية، كما هو واضح من اسمها وتأثيرها. 7 * آخر أبوابها حتى يتسنى لعبد الرحمن أن يعود للعسكرية تنازل عن منصبه السياسي بجرة قلم، مقدماً استقالته من الحزب؛ مفضلاً البزة العسكرية والنياشين على السياسة المكلفة، والتي لم تسمح له الظروف بممارستها أوان كان طالباً.. لكنه لم يسلم من دأبها القديم؛ فالسياسة كما قلنا تتربص بعبد الرحمن المرة تلو الأخرى وتمسك بتلابيبه، حيث وجد نفسه يتمشى في أروقة القصر الجمهوري. ليدخل السياسة من آخر وأهم أبوابها؛ مساعداً لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن، وتردد أنه سيكون مكلفا بملف جنوب السودان.. مهلا هل هذا الموقع سياسي؟ كيف لا؟ ولا خلاف على أن حزب البشير ثقله من العسكريين باقين في الخدمة أو متقاعدين.. العميد الذي انقطع عن الخدمة العسكرية حيناً من الدهر أمثاله من العسكريين، وقدماء المحاربين كثر وبرتب أعلى ودراسات وشهادات من بلدان متقدمة أمثال روسيا وألمانيا وأمريكا يجلسون على كرسي القماش، وعبد الرحمن بعد أن أحيل ظل ميسور الحال كسائر آل المهدي وبيت الإمام. المهم أننا لا يمكن أن نتغافل عن أجواء تشكيل الحكومة الجديدة والتي تشتهي الحكومة القديمة أن تكون عريضة مهما كلف الأمر.. ومشاركة عبد الرحمن الصادق نجل الإمام قد تضفي عليها مسحة من ذلك، وفي بال من رسم وخطط أن عبد الرحمن سبق وأن قدم استقالته، فبدا له سهولة أن يجد حزب الأمة الحجة تحت لافتات (الموقف الشخصي). ألم نقل لكم إن الفارس سيمارس السياسة من سلمها الأخير؛ يدلف إلى المضمار قبل خط النهاية، ويجلس على كرسي في القصر الجمهوري. ومن يومها ظل عبد الرحمن مستشاراً، وفي التشكيلة الجديدة التي أعلنت مساء السبت ظل في موقعه. الملاحظ هذه المرة أن كل التكهنات والترشيحات لم تقل إن عبد الرحمن خارج التشكيلة.. كأن وجوده مساعدا للرئيس مسلما به، أو أن أسباب وجوده في القصر لم تنته بعد.. ربما اليوم التالي