الرياض- نواصل ما انقطع من حديث بشأن القصص المؤسفة التي تحدث لسودانيين طال امد غربتهم، فيحدثثنا مغترب من ولاية نهر النيل يدعى «م.ن.ك» انه اغترب قبل 12 عاما، والتحق بمهنة محاسب مالي بحسبب تخصصه، وكان يتقاضى راتبا مجزيا.. وقبل عامين تم الاستغناء عنه بدعاوى هيكلة الشركة، ولم يجد وظيفة بعد ذلك غير توصيل الطلاب والطالبات نظير مبالغ زهيدة، حتى يستطيع تدبر معاش اسرته الصغيرة. ويبدو أن «ص» من الأبيض ليس بافضل منه حالا، فيقول انه كان يعمل مندوبا بشركة تدفئة وديكور، لمدة 13 عاما، ومن بعدها عمل لمدة اربعة اعوام مسؤول علاقات عامة، قبل ان يتم الاستغناء عن خدماته قبل عام، ومنذ تلك اللحظة يقول: اجلس بدون عمل ولا اعرف كيف العودة الى الوطن، ولا يوجد منزل يأوي صغاري. ومغترب آخر وجدته يدندن ويتغنى بأغاني عثمان حسين رحمه الله، وخاصة أغنية يقول فيها: كل طائر مرتحل عبر البحر قاصد الأهل حمّلته أشواقي الدفيقة.. إنه «م» العبيد، من ولاية الجزيرة، فقلت له لا أعتقد أن هناك أفضل منك حالا «رائق ومرتاح».. فإذا به يطلق آهات وتنهدات تقطع القلب وتفتر أعضاء الجسم، وقال لي دعني أسألك أنا .. بالله عليك ماذا تريد مني أن أفعل؟ هل أنوح وأبكي أم ألوذ بالصمت الذي ربما إذا تعودت عليه لا أعرف أن أتحدث مرة أخرى، أو أشارك في أي حديث أيّا كان نوعه. وأخذ «م» يسرد قصته وقال إنه كان يحلم فقط بتصحيح وضعه إلى الحد الأدنى، بألا يطيل مدة هجرته لأكثر من سنتين، فعزم على السفر وشدّ الرحال إلى أحد البلاد الخليجية، بعقد عمل تم التعاقد عليه في الخرطوم، ولما كان العقد مجانا قبل بالراتب البسيط الذي تم الاتفاق عليه، ولكنه كان لا يقارن بما كان يتقاضاه في عمله الذي كان يعمل به في الخرطوم. واستطرد بالقول: حينما جئت إلى بلد المهجر استلمت وظيفة بإحدى الشركات العملاقة والمعروفة، ولكن لم تكن الوظيفة ذاتها التي اتفقنا عليها، حيث أنني تخرجت في جامعة الخرطوم ودرست زراعة، وتخصصت في مجال وقاية محاصيل.. غير أن الوظيفة الجديدة التي استلمتها كانت «مندوب مبيعات»، وكانت طبيعة العمل توزيع بضائع على العملاء أصحاب محلات القطاعي بسند وفي الغالب ليس «بالكاش». وأضاف: كنت في بداية الأمر أقوم بتوزيع بضائع بعشرات الآلاف من الريالات، وبعد عدد من الأيام أمر على الزبائن لاستلام المبالغ، واستلم نظير ذلك مبالغ لا بأس بها وأسلمها إلى الجهة التي أتبع لها في أوقات محددة، ولكن بعد مدة من الزمان تنكرّ كثير من الزبائن ولم يعد باستطاعتهم سداد ما عليهم من مبالغ لعدد من الأسباب، منها ركود السوق. وقال: ليس هذا فحسب، فقد أغلق كثير من زبائني محلاتهم وهربوا بآلاف المبالغ التي أصبحت فيما بعد ديناً علي لمدة طويلة أرهقتني، وبقيت لأكثر من سنة وأنا اعمل مع تلك الشركة فقط لأسدد الدين الذي سببه لي هذا الوضع الذي لم أكن أتوقعه، وبعد انتهاء الدين أصابني فشل كلوي جراء هذه الأحداث المؤسفة، ونصحني أقاربي الذين كنت أقاسهم السكن والعيش والإقامة، بأن اتعالج هنا أولا، وقاموا بهذا الواجب. وبعد استشفاء لمدة طويلة رفضت فيها أن اخبر أمي التي تركها لي والدي الراحل، بهذا الامر، حتى لا تبقى علي كما يقول المثل «ميتة وخراب ديار». وبقي صاحبنا «م» يعمل في وظيفة جديدة وعلى كفالة شركة جديدة، ولكنه وهو الآن بعيد عن أهله وأمه لمدة تزيد عن السبع سنوات، ولم يتسطع حتى الآن أن يحسم أمره ويحزم أمتعته للسفر ليبلل شوقه ويملأ عيونه بنور وجه امه التي طال شوقها وجفت مآقيها من كثرة النحيب والبكاء، ولم يجد صحبنا سلوى إلا التغني بأغنية الطير المهاجر لوردي ليختتم بها حديثه الذي تحوّل من بعد الغناء إلى بكاء.