يقوم عالم اليوم على تقسيم قائم على أساس الدولة القومية. وبصرف النظر عن قناعتنا بهذا التقسيم أو لا، لكنه يظل حقيقة لا يمكن إلغائها أو تجاهلها. فى كل هذا، شرط صحة الدولة القومية هو المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن دياناتهم أو أعراقهم او ثقافاتهم. فى غياب المساواة الكاملة بين المواطنيين فى الحقوق والواجبات لا تصبح الدولة دولة قومية. الهدف الأساسى للدولة القومية هو حماية مواطنيها وحدودها المعروفة أولاً لتأكيد سيادتها. يلى ذلك توفير الفرص لمواطنيها لتنمية قدراتهم وتطويرها، كما يتوجب عليها تمثيلهم بأحسن صورة ممكنة وسط شعوب وأمم العالم بما يحقق مصالحهم ويكسبهم إحترام الشعوب والأمم. أما الدولة الدينية (كما أثبتت تجربة الأخوان المسلمين منذ 1989) فهمها الأساسى هو دين سكانها، المواطنيين فيها هم المسلمون، ثم يليهم أهل الذمة فى الدرجة الثانية او الثالثة الخ... حقوق وواجبات أهل الذمة لا تتساوى مع حقوق المسلمين. ينصبّ كل هم الدولة الدينية على تفتيش ضمائر السكان والتأكد من عقيديتهم، ويتم ذلك فى أغلب الأحيان بتغليب سوء الظن بالمواطنيين على حسن الظن بهم. الدولة الدينية غير مهتمة بحال سكانها ورفاهيتهم وهدفها الاساسى هو الجهاد فى سبيل الله حسب ما يفهمه ويفسره الأخوان المسلمون، وسكانها بصرف النظر عن أحوالهم ماهم إلا بيادق يستخدهم قادة الأخوان المسلمين لمايسمونه الجهاد فى سبيل الله. لافرق عند قادة الاخوان المسلمين إن كان السكان قد تم تأهيلهم وتدريبهم للقيام بالجهاد والقتال أم لا، فهؤلاء السكان ماهم إلا كتلة من البشر سخرها الله لهم لإستغلالها فى حروب لا تنتهى. يزج بهم فى الحروب والمعارك دون أدنى تأهيل أو تدريب. لا أحد يسال عنهم إن ماتوا أو عاشوا أو فقدوا أطرافهم. دولتهم لا حدود جغرافية معروفة لها (الظلال، سيد قطب)، فحدودها هى أينما وقفت حوافر خيل مجاهديها، أو أينما ضربت القنابل البراميلية (بلغة العصر)، أو أينما أحرق مجاهدوها قرى السكان الآمنون. فوق ذلك مهمتها الأساسية هى إخضاع الشعوب والدول الأخرى حتى يدخلوا فى دين الله افواجاً او يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. لكل ذلك هنالك تناقض جوهرى بين الدولة القومية والدولة الدينية. ولأن المفوهمان يتناقضان، لذلك عندما يتحدث وزير فى دولة دينية عن مصالح قومية يختلط الحابل بالنابل وترتبك المفاهيم. فى هذه الحالة (حالة وزير الرى) ، كان علية أولاً أن يحدد إن كان يتحدث عن دولة قومية أو دولة دينية؟ لأننا نعلم أنه مايزال عضواً قيادياً فى دولة دينية. فإن كان الوزير يتحدث عن مشروع سد النهضة من مفهوم قومى، كان عليه أولاً أن يعلن خروجه عن الدولة الدينية بكل ما يعنيه ذلك من تبعات مفهومية. أى قبوله بمفهوم الدولة القومية التى تساوى بين جميع مواطنيها وتهتم بحمايتهم وحياتهم ورفاهيتم فقط. لأنه ببساطة لا توجد دولة قومية دينية! قإن كان الوزير قد استفاق لوعيه وخرج عن الدولة الدينية، وبالنظر للاخطار الماثلة التى يتسبب فيها سد النهضة، يتوجب عليه أن لايكتف بكتابة مقالات ومخاطبة الخبراء والمختصين فقط، بل الواجب (حتى من منظور إسلامى) يقتضى عليه الخروج لمخاطبة العامة وتوعيتهم وتنبيههم لما يحاك ضدهم وضد مستقبل أبنائهم و أحفادهم. وعليه أن لايتوقف عند شىء ولا يكترث لما سيواجه، فبالنظر للمخاطر القومية التى تحدث عنها، فذلك هدف قومى نبيل يضحى المخلصين من أجله بالمهج والأرواح وليس فقط كتابة مقالات لا تثمن ولا تغن من جوع. أما إن كان الوزير يتحدث من مفهوم دولة دينية وهو لا يزال عضو قيادى فيها، فما عليه إلا أن (يموص مقالاته ويشربها) حسب تعبير رئيسه. فحسب ما يورد سيد قطب ففكرتهم تقوم على السيطرة على العالم بحد السيف وليس عليها أن تنتظر ليهاجمها الآخرون ثم تدافع عن نفسها، بل عليها المبادأة والتوجه نحو الآخرين إما أن يقبلوا الدين أو يدفعوا الجزية، وإن إعترضوا يعمل السيف فى رقابهم. لا يتوقف هذا الأمر فى بر أو بحر، بل يستمر حتى تسود دولة الأخوان المسلمين العالم أجمع. لذلك فما كان يردده الإنقاذيون فى أيامهم الأولى (سنسود العالم أجمع) لم يكن حديثاً من فراغ أو هراء لاقيمة له، بل هو جوهر فكرتهم. أكثر من ذلك تؤمن قياداتهم (المستنيرة) بذات المفهوم التوسعى وتعلنه صراحة دون تردد. أكد ذلك الدكتور غازى العتبانى فى لقائه بوزراء خارجية كينيا، يوغندا، إثيوبيا، أرتريا، حسب ما يورد الدكتور منصور خالد: "إن رسالتنا ليست هى توطيد الإسلام فى السودان، بل نشره فى إفريقيا... هذه هى رسالتنا التى أوقف مسيرتها الإستعمار.. وسنبدأ من حيث أوقفنا االإستعمار" (جنوب السودان فى المخيلة العربية، ص 129). وطالما كانت تلك هى إستراتيجيتهم، فعلى الوزير الهمام أن لا يهتم بمشروع سد النهضة وتبعاته أو تأثيراته. فالسد وأثيوبيا وما حولها ستكون قريباً جداً جزءً من إمبراطوريتهم الإسلامية الأفريقية. ولذلك، ليس هنالك مبرر لكى يعارض الوزير المشروع، بل عليه أن يؤيده وبشدة لأنه – وبناءً على إستراتيجيتهم- لا محالة آيل لهم إن لم يكن اليوم فغداً. أما إن كان الوزير بحكم موقعه القيادى، قد إطلع على معلومات تفيد بتنازل جماعته عن دولتهم الإسلامية فى إفريقيا، وتحولهم الى قوميين، فالواجب يقتضى عليه أن يعلن ذلك صراحة حتى يتبيّن الذين فى قلوبهم (غرض) الخيط الأسود من الخيط الأسود. فى الختام نعود مرةٌ أخرى للقضية الجوهرية التى طرحناها فى صدر المقال وهو: أن الأخوان المسلمين لن يتمكنوا من تحديد موقفهم من سد النهضة والمشروعات الإقليمية المشابهة قبل تحديد طبيعة دولتهم. فهى إما دولة قومية تخضع لنواميس وضوابط الدول القومية، إما دولة إسلامية توسعية تظل محل شك من العالم على الدوام. أما محاولة الجمع بين الاثنين (قومية إسلامية) فهو أمر مستحيل فى كل الشرائع مثله مثل الجمع بين الأختين محرم فى كل الشرائع. لقد جاء الأخوان المسلمين بتصور مجنون حمّلوا السودانيين فوق طاقتهم واحتمالهم، يعلنون أنهم " سيسودون العالم أجمع" و"العالم أجمع" يعنى إمبراطورية تمتد من رأس الرجاء الصالح جنوباً الى القطب الشمالى، ومن كلفورنيا غرباً الى جزر (فيجي) شرقاً. يبدأ بناء إمبراطوريتهم- كما عرفنا من خططهم - بالتهام أثيوبيا ومصر وكينيا الخ.. فبالنسبة لهم هذه الدول ما هى إلا "مشهيات"، أما الوجبة الأساسية فهى أمريكا وروسيا، وقد "دنا عذابهم" وعلي مجاهديم إن لاقوا أمريكا ضرابها وليس "تحنيسها" لرفع العقوبات. إمبراطورية بتلك الحجم لم يبلغها الإسكندر الأكبر بكل مقدراته العسكرية والقيادية، وما أنجزها المغول التتر أشرس المحاربين فى التاريخ الذين تمددوا فى مساحات من الأراضى لم يسبقهم عليها إنس ولا جان. يدير كل هذه الإمبراطورية الإخوانية – حسب تصورهم - خليفة المسلمين الذى يلبس الطاقية أم قرينات ويجلس على الككر فى مقرن النيلين يأتيه خراج الأمصار من أدغال الأمازون و الملايو ويدعوا له بالتوفيق والسداد سكان الإسكيمو والأباوريجنال فى أستراليا. إنتهى بهم ذلك الوهم السخيف، كما نعلم الى فقدان ثلث دولتهم فبدلاً من أن تتمدد حتى رأس الرجاء الصالح كمرحلة أولى، إنتهت الى بضع كيلومترات جنوب مدينة كوستى! وضاعت منها منطقة واسعة فى شمالها الشرقى، وضربت الفوضى والحرب أكبر اقاليمها، ويضطرب أهم اقليمين فيها بحرب طاحنة، الله وحده يعلم أين سينتهى بهما المطاف. كل ذلك ووزير الرى الهمام يحدثنا عن "مستقبل الشعب السودانى". لقد جاء الوقت لكى يعترف الأخوان المسلمون الحاكمون أنهم لا يملكون تصوراً محدداً للدولة التى يريدون. وأن ما يقومون به ناتج عن "أوهام" حسب وصف المحبوب عبد السلام. يضاف لذلك أن عدم وضوح رؤيتهم فى قضايا خطيرة ناتج عن خلطهم للمفاهيم و ما يقومون به ما هو إلا خبط عشواء دمر الدولة والمجتمع، وإن سياسية الإنحناء للعواصف لن تحل لهم قضية بل على العكس تورطهم فى المزيد من الجرائم، وأن دولتهم الحالية بلا مستقبل وهى ساقطة لا محالة ومن الافضل لهم أن يبحثوا عن صلح مع الآخرين ليعيشوا فى كنف دولة قومية تسع الجميع، حتى يتثنى لنا جميعاً النظر فى قضية كقضية سد النهضة. [email protected]