يلجأ الشاعر اليوم إلى ملكات جمالية تشكيلية بصرية قد تكون قادرة على المساهمة في استقطاب قراء جدد، فيدخل في نصوصه الشعرية ممارسات كتابة تشكيلية، مستثمرا في ذلك الفضاء الورقيّ. وفي كتابها النقدي الجديد "الاشتغال الفضائي في شعر ناصر مؤنس: دراسة سيميائيّة"، تؤكّد الباحثة العراقيّة آلاء عبدالأمير السعدي أنّ تجربة الشاعر العراقي ناصر مؤنس تمثّل حالة فريدة، لأنّه يعوّل على الفضاء الكتابي أكثر مما يعوّل على الكلمات في تنفيذ أعماله بطريقة الغرافيك. العرب عمادالدين موسى ترى الناقدة والباحثة آلاء عبدالأمير السعدي في كتابها "الاشتغال الفضائي في شعر ناصر مؤنس: دراسة سيميائية"، الصادر عن دار مخطوطات، (هولندا- 2015)، أنّ النص عند الشاعر العراقي المغترب ناصر مؤنس يتحوّل على يديه إلى مجموعة من القوالب الشكليّة التي تحوي عادة نصّا مكتوبا يتشكّل جماليّا ودلاليّا ليصبح مرئيّا بالدرجة الأساس ومقروءا بدرجة ثانية لإنتاج شفرته الدلاليّة. الفضاء الورقي والطباعي صار عنصرا آخر يضاف إلى العناصر التأويليّة والأبعاد الدلاليّة للّغة، يشدّ المتلقّي إلى القراءة والتمعّن أكثر في النصّ الشعريّ، بدءا من العتبات والمظاهر الأولى المكوّنة لذلك الفضاء المتحوّل؛ من كونه مكانا بيئيّا شفاهيّا سمعيّا، إلى كونه ورقا طباعيّا بصريّا، مرورا بشكل كتابة القصيدة وعلامات ترقيمها والصور المرافقة، وانتهاء بلغتها وأنساقها اللسانيّة. هذا التحوّل، حسب مقدّمة الكتاب، سعى إلى ردم الهوّة الحاصلة بين الباث والمتلقي، ولا سيما بعد أن تمّ قطع الوسائط بينهما، في غياب الوظيفة الإلقائيّة البارزة للقيم الجماليّة وسمات الأداء الشفهي للباث، فكان الاشتغال الفضائي الطباعي مؤكّدا على أنّ الكتابة الشعريّة لم تعد متمركزة ومتقوقعة في اللغة ذاتها، بل تعداها ليجعل ذلك الفضاء مساعدا على إنتاج دلالات شعريّة وتأويلات عدّة، حاملة أبعادا بصريّة صادمة للمتلقّي وجاذبة لانتباهه. ليصبح الاشتغال الفضائي بدوره مخاطبا للعين وليس للأذن، وبناء على ذلك أخذت الصفحة الشعريّة اهتماما من لدن الشعراء وأصبحت جزءا أساسيا من بنية النصّ الشعري، تجلّى ذلك من خلال التنافذ والتداخل الأجناسي بين الأدب والرسم والموسيقى والسينما، إلخ... الاشتغال الفضائي في التمهيد تتوقّف السعدي عند أبرز سمات الاشتغال الفضائي وتورد بإسهاب كل ما يتعلّق بمفردتي "الشغل" و"الفضاء" في المعاجم، ومن ثمّ المصطلحات المرادفة لها في عدد من المصادر والمراجع. وتوجز الاشتغال الفضائي في مسارين؛ الأول يعدّ اللغة جسما حيّا، حاملا لطاقة ترصيعيّة، أفرز نزعة غنائيّة ذات منحى صوتي أحيانا. أمّا الثاني فيعدّ اللغة ميكانيزما محدّدا، عقلانيّا يتحمل كل جهد تجريبي. ورغم قلّة استعمال مصطلح "الاشتغال الفضائي" كدال على مفاهيم متواشجة ومتآصرة، فإنه -حسب المؤلفة- يعدّ الأنسب والأقرب إلى تلك المفاهيم في أبعادها المختلفة. حيث أخذ المصطلح بعدا مؤثّرا عند عدد من الدارسين والباحثين، خصوصا ممن يعملون على فضاء النص الشعري، فقد استعمله كريم شغيدل في كتابه "تداخل الفنون"، ومناف جلال الموسوي في كتابه "غواية التجريب"، وحسن غانم فضالة في أطروحته للدكتوراه "المكان في شعر محمود درويش"، وخاوة نادية في بحث عنوانه "الاشتغال السيميولوجي للألوان". في الفصل الأول وعنوانه "الشعر بين الشفاهيّة والكتابيّة"، تبحث المؤلفة أولا في سيمياء التشكل الفضائي أو ما يسمّى بسحر الكتابة، وتتناول ثانيا الحداثة الشعريّة وتجربة الفضاء في الشعر العراقي. ففي الوقت الذي كان فيه تلقّي الشعر تلقيا شفاهيّا مرتبطا بصيغة الأداء والإنشاد، وعماده الصوت، كان يتمّ تداوله من خلال نمطين رئيسيين؛ هما الإلقاء والهَذّ. في الأول يجد متلقّي الشعر تلك الحركات المصاحبة للقول، وعلى وجه الخصوص الحركة الجسميّة والتعابير التي ترتسم على القسمات، وكذلك النبرة الصوتية من خفض ورفع وتشديد وتفخيم.. والتي تعطي القصيدة بعدا وحقلا تمثيليّا يبتعد عن سكونيّة الكتابة. بينما المقصود بالثاني تلك القراءة الخامدة من حيث الجذوة الإبداعيّة، والمقدّمة بعيدا عن الإحساس وعن الشحنات الانفعاليّة المصاحبة للإلقاء. انفجارات بصرية في الفصل الثاني "الفضاء النصّي/ المكوّنات والدلالة"، تدرس المؤلفة العلامة البصريّة دون اللغويّة، محاولة الكشف عن قيمتها بوصفها مدخلا مهمّا لقراءة نص الشاعر مؤنس، وذلك وفق ثلاثة مستويات؛ سواء من جهة وصف التركيب العلامي والذي يهتم بالخصائص التركيبية للعبارات المعطاة تجريبيّا والعلاقات في ما بينها، أو من حيث الموضوع (مستوى الدلالة)، أو المؤوّل (المستوى التداولي)، من جهة ثانية. كما ترصد أبرز علامات الفضاء في شعر ناصر مؤنس، منها علامات نوعيّة مركّبة متمثّلة بالفضاء النصّي والذي بدوره يتمثّل من خلال الخط والأشكال البصريّة والرسوم والفضاء التصويري والبياضات. ومنها ما تكتفي بالأشكال البصريّة سواء أكانت مركبة أم غير مركبة من ناحية أم مجرّدة من ناحية أخرى. هذه العلامات بدورها، من حيث التركيبة، تعتبر علامة مفردة ومتضافرة لبناء علامات نوعيّة متعددة، تتوزّع على علامات أخرى، منها التي تعنى بالفضاء النصّي وأخرى تخصّ الفضاء الصوري. في فصل "النسق اللساني بوصفه موجها للقراءة"، ثالث فصول الكتاب وأكثرها ثراء وتوسّعا في تناول ثيمات جماليّة في شعر مؤنس، مرفوقا بجداول بيانيّة توضيحية تشرح ما تذهب إليه الدراسة، نقرأ عن جوانب عدّة في تجربة الشاعر مؤنس، ولا سيما دراسة الوحدات المعجميّة والبنى التركيبيّة، ومن ثم قراءة متأنّية في الفضاء المكاني، والأعلام والشخصيّات، عدا عن دراسة الوحدات اللونيّة والإيقاعيّة، وقوفا عند بنية التناص. وحول المظاهر الكتابيّة (الإملائيّة) ترى المؤلفة السعدي أنّه ثمّة ظواهر هيمنت على شعر ناصر مؤنس، من أهمّها ظاهرة الخروج على كتابة ورسم الهمزة بشكلها المتعارف عليه، وهو خروج مقصود بغية كسر الأنساق والأنماط ونبذ الاعتياد وتحطيم الهيمنات القيميّة مهما كانت راسخة، طالما غاية الأمر تحقيق المعنى وترسيخ فعل الكتابة من دون تحرّج، بجعل الكتابة حصنا لذاتها، تقيم أسوارها مع كل نص على حدة. في الفصل الرابع والأخير، ويحمل عنوان "الفضاء الصوري/ المكوّنات والدلالة"، توضّح المؤلفة أنّ الفضاء الصوري يخالف الفضاء النصّي الموجّه للقراءة وحدها، كون الفضاء الصوري معطى للرؤية والتأمّل المتأنّي، ليكون مقروءا لا يوقف حركة العين. قوامه حركة الأسطر الشعريّة التي يرسمها الشاعر على الصفحة، وكذلك العلاقات البصريّة الممنوحة للرؤية. هذا التشكيل البصري يستلزم من متلقيه قراءة متأنية مع توقف لاسترسال العين، بحيث يقوم بالمسح البصري للأشكال الخطية، سواء أكانت أيقونيّة أم سواها، والتمعّن في رؤيتها وقراءتها، حتى يتمكّن المتلقي من الوصول إلى الدلالات الكامنة وراء هذه الأشكال. وكان ناصر مؤنس في العديد من لقاءاته وتصريحاته يقول: على الشعر أن يكتب انفجاراته البصرية والسمعية، وسوف يؤمن الحفر، الحامض، المعدن بأحلام الشعر.. أحلم بإعادة تنظيم الفضاءات الخاصة بالصفحة وتأثيثها بالكلمات والمعاني والأشكال والرموز والألوان والصمت والفراغ، وما أودعه الأولون من سحر في الخطوط.. أحلم بالحرف المكتوب ليس كمجرد سواد أخرس، بل كدلالة تنظر إلى نفسها في الهندسة والأشكال، وتشحن جسدها بأوصاف وجداول. كأنها ترقش الكلمات برسوم تعزيمية، وكأنها كتابة تعمد روح المعنى.