نستطيع بالطبع أن نعبر عن تحفظاتنا علي مالا نتفق معه في الوثيقة الصادرة عن علماء الأزهر والمثقفين الذين اجتمعوا بهم في الشهر الماضي, لكن علينا مع هذا أن نرحب بهذه الوثيقة لا بوصفها تعبيرا نهائيا عن موقف الذين أصدروها إزاء القضايا التي تناولتها, بل بوصفها صيغة أولي مطروحة للمناقشة وقابلة للتعديل. بهذا الاعتبار أرحب بالوثيقة وأعتبرها لفتة إيجابية يراجع بها الأزهر نفسه ويسهم في بناء النهضة المصرية بعد أن أدرك, ولو متأخرا, أن أفكار العصور الوسطي ونظمها لم تعد تصلح لهذا العصر الذي تغير فيه كل شيء في حياتنا. مصر لم تعد سلطنة مملوكية ولا ولاية عثمانية, وإنما استعادت حريتها, وصارت جمهورية مستقلة. والمصريون لم يعودوا طوائف موزعة علي الديانات الثلاث, وإنما استعادوا وحدتهم الوطنية, ورجعوا كما كانوا أمة واحدة. وكما استعاد المصريون وحدتهم الوطنية استعادوا وعيهم بتاريخهم الوطني. فالتاريخ المصري لم يبدأ بالإسلام ولا بالمسيحية, وإنما بدأ قبلهما بما يزيد علي أربعة آلاف عام. ولقد خرجت مصر من عزلتها التي كانت مفروضة عليها واتصلت بالحضارة الحديثة وبالعالم المتقدم فعرفت العقل, ومناهج العلم الحديث, وصور الفن, وحكم الدستور والديمقراطية, وسواها من الأفكار والمعارف والمباديء والنظم التي لم تكن تستطيع أن تستوعبها عقلية العصور الوسطي التي ظل الأزهر متشبثا بها, وإن خرج عليها من أبنائه رواد طالبوا بالاصلاح من أمثال حسن العطار, ومحمد عبده, ومصطفي عبد الرازق. غير أن هؤلاء لم يكونوا يطلبون الا إدخال العلوم العصرية في مناهج الأزهر, أما أن يتحاور المعهد العريق مع فكر النهضة ويستخدم لغتها فهذا لم يحدث إلا في الوثيقة التي أعلنها الإمام الأكبر قبل أسبوعين بعد لقاءين جمعا بين نخبة من علماء الأزهر وعدد من المثقفين المصريين. فإذا كانت هذه الوثيقة تعبيرا عما يفكر فيه علماء الأزهر الآن فنحن أمام نقلة خرج بها الأزهر من مرحلة طالت ودخل مرحلة جديدة. الأزهر يتحدث اليوم في وثيقته عن الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة, وكان في عشرينيات القرن الماضي يدعو لمبايعة الملك فؤاد خليفة للمسلمين. والأزهر الآن يتحدث عن الديمقراطية, وكان في الماضي يؤيد الطغاة ويتحدث بلسانهم ويستجيب لطلباتهم. والأزهر الآن يدعو للالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي, وكانت بعض مؤسساته قد تحولت في العقود الأخيرة إلي محاكم تفتيش. والأزهر يتحدث الآن عن الأمة المصرية وعن الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة, وكان بعض شيوخه يجعلون الدين بديلا عن الوطن, فيقول أحدهم بعد أن احتل الاسرائيليون سيناء في حرب يونيو تضيع سيناء ولا تضيع عقيدتنا! لكن اعترافنا بهذه النقلة الايجابية, التي تحققت في وثيقة الأزهر لا يمنعنا من مناقشة بعض ما جاء فيها من أفكار وعبارات تتعارض بشدة مع ما في الوثيقة من هموم عصرية وتوجهات عقلانية. حين يقول الذين أصدروا الوثيقة إنهم يحتكمون للأزهر في تحديد علاقة الدين بالدولة نعترض بشدة ونعلن رفضنا بكل وضوح, لأن علاقة الدين بالدولة مسألة لا يجيب عنها المفتي, ولا يحتكم فيها للحلال والحرام, وإنما يجيب عنها العقل, ويحتكم لحاجات الأمة ومطالبها. والدين والدولة طرفان يستطيع الأزهر أن يمثل أحدهما وهو الدين, لكنه لا يستطيع أن يمثل الدولة وإنما تمثلها الأمة ومن ينوبون عنها. والدين عقائد وقيم أخلاقية وليس نظاما أو سلطة, وبوسع الأزهر أن يشرح العقائد ويدعو للقيم, لكن عليه أن يترك للمصريين الحرية في تجسيد هذه القيم والعمل بها. والحديث عما جاء في الوثيقة عن الاحتكام للأزهر في تحديد علاقة الدين بالدولة يستدعي الحديث عما جاء فيها عن الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة ومرجعيتها الاسلامية التي تتمثل في القضايا الكلية المستخلصة من النصوص الشرعية, وعن تشريعات هذه الدولة التي اشترطت الوثيقة أن تكون المباديء الكلية للشريعة الاسلامية هي مصدرها الأساسي. والسؤال الذي طرحته مرارا ولم أتلق عنه جوابا حتي الآن هو: كيف تكون الدولة وطنية ودستورية وديمقراطية وحديثة, وتكون مرجعيتها دينية؟ ولنبدأ بفهم المعني المقصود من كلمة مرجعية، المرجعية معناها المصدر الذي يرجع إليه, كما يكون العالم المختص لطالب المعرفة, وكما يكون المفتي بالنسبة للمستفتي. والمراجع العليا عند الشيعة علماؤهم الكبار, ويسمونهم أيضا الحوزات لأنهم يحوزون علوم الدين أو يتملكونها. والكلمة العربية مترجمة في الغالب عن الكلمة الفرنسية reference, وتعني المرجع أو السند أو الأصل أو المصدر, ولهذا سمي استفتاء الأمة referendum, لأن الأمة في الدولة المدنية والنظم الديمقراطية هي مصدر السلطات. فاذا تحدثنا عن دولة بمرجعية إسلامية فنحن نتحدث عن دولة تقوم علي الاسلام وتستمد منه نظمها وقوانينها كما يفعلون في السعودية, وفي إيران, وفي السودان. وهي إذن دولة دينية تتعامل مع رعاياها بوصفهم مسلمين وغير مسلمين, وليس بوصفهم مواطنين. وتجعلهم علي هذا الأساس درجات, فهم ليسوا متساوين في الحقوق والواجبات. وتفرض عليهم قوانينها الإلهية فليس لهم أن يحكموا أنفسهم أو يشرعوا لأنفسهم. والدولة الدينية باختصار لا يمكن أن تكون ديمقراطية أو دستورية كما جاء في الوثيقة التي ابتعدت تماما عن أن تصف الدولة التي تتحدث عنها بأنها مدنية, لأن مدنية الدولة تتناقض تناقضا صارخا مع المرجعية الدينية التي تتناقض كذلك مع مبدأ المواطنة, ومع الديمقراطية, ومع الدستور, ومع الحداثة. وإنما تكون الدولة مدنية, ووطنية, وديمقراطية, ودستورية, وحديثة حين يكون الشعب هو المرجع. أي حين تكون الارادة المشتركة والمصالح المشتركة لا الديانة المشتركة هي الأساس الذي يقوم عليه النظام, وهي المصدر الذي تستمد منه القوانين التي يجب أن تنبع من حياة الشعب ولا تفرض عليه من أعلي. تقول الوثيقة في محاولة للجمع بين المتناقضين: الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة والمرجعية الدينية تقول إن الدولة الدينية هي الدولة الثيوقراطية التي يحكمها رجال الدين كما كان الحال في الدولة المسيحية التي ظهرت في العصور الوسطي, وكما هو الحال الآن في دولة الفاتيكان التي يرأسها البابا. والاسلام ليس فيه سلطة دينية, وليس فيه رجال دين, وإذن فالدولة الاسلامية ليست دولة دينية! وهذا كلام بعيد عن الصواب. ويمكن أن نصفه بالتحايل والتضليل. لأن الدولة لا تستمد طبيعتها من مهنة حكامها, وإنما تستمدها من المباديء التي تقوم عليها, والدولة تكون دينية ولو حكمها ضابط كالنميري أو البشير في السودان لأن مرجعيتها دينية. وتكون مدنية, ولو حكمها قسيس كالأسقف مكاريوس رئيس جمهورية قبرص, لأن مرجعيتها مدنية. لكن الوثيقة تقول لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا في حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخري بالدولة الدينية, فهل نوافقها؟ صحيفة الاهرام