يدور جدل ساخن وكثيف هذه الأيام في مصر ما بعد ثورة 25 يناير حول دستور مصر المقبل، وأكثر ما يشغل النخبة السياسية والفكرية في موضوع الدستور القضايا التالية: التحول الديمقراطي والحريات الأساسية، علاقة الدين بالدولة، النظام الجمهوري، الحفاظ على التراث الثقافي والحضاري المصري، مدنية الدولة، الحفاظ على مصادر الثروة الأساسية، العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة. ولعل أكثر القضايا جدلية هي علاقة الدين بالدولة التي عبرت عنها المادة الثانية من الدستور المصري القديم منذ أوائل السبعينيات والتي تقول: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»؛ وقد جرى جدل حولها من قبل في عام 2007م عندما أراد الرئيس مبارك تعديل الدستور حتى يسمح لنفسه بالترشح أكثر من مرتين، وأن يقيد الترشيح لرئاسة الجمهورية بتأييد واسع من أعضاء مجلس الشعب والشورى والمجالس المحلية بحيث لا تتاح الفرصة إلا لمرشح الحزب الوطني الحاكم. ورغم أن مبارك كان علماني العقيدة والهوى إلا أنه لم يشأ تعديل المادة الثانية حتى لا يصادم تيار الصحوة الإسلامية الواسع الانتشار في المجتمع المصري، والذي ساهم في منح جماعة الإخوان المسلمين المحظورة« 88» مقعداً في انتخابات 2005م، وزاد من الجدل حول المادة المعنية هذه المرة مناخ الحرية الواسع خاصة بالنسبة لطائفة المسيحيين الأقباط الذين كانوا يتحرجون من الحديث عن المادة الثانية في ظل نظام مبارك الدكتاتوري. كما أن ظهور التيارات الإسلامية بحجم كبير ومنظم في الساحة السياسية أدى إلى تخوف كثير من المثقفين العلمانيين والليبراليين من أن تطبيق الشريعة الإسلامية في ظل سلطة يهيمن عليها الإسلاميون سيكون مختلفاً جداً عن تطبيقها في عهد نظام مبارك العلماني ظاهراً وباطناً. وفي هذا المناخ السياسي الساخن صدرت «وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر»، التي أعلنها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في العشرين من شهر يونيو الماضي، وأشهد للرجل بالعلم والفضل والخلق المتين، فقد تعاصرنا لبضع سنين في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد. وقد ظهرت في الفترة الماضية عدة وثائق من جهات مختلفة حول الدستور في مصر منها: وثيقة التيار الرئيسي، وثيقة البرادعي، وثيقة المجلس الوطني، وثيقة الدستور الشعبي، وثيقة الدستور الثقافي المصري، وثائق لجان مؤتمر الوفاق … ولكن وثيقة الأزهر حازت على قصب السبق في النقاش بين المثقفين باتجاهاتهم المختلفة، ولقيت قبولاً واسعاً في أوساط النخب السياسية والفكرية، ولم يكن هذا أمراً معتاداً من المثقفين تجاه فتاوى الأزهر أو مذكراته التي تخرج عادة للناس في مناسبات معينة بإيعاز من السلطة الحاكمة! ووصفها بعض المثقفين في ندوة مكتبة الاسكندرية التي عقدت ندوة خاصة لمناقشة الوثيقة، بأنها استعادت للأزهر مكانته التاريخية، فضلاً عما تحققه له من استقلالية بعد ما ظل خاضعاً لعقود تحت الأنظمة الدكتاتورية. وقبل أن نخوض في محتوى الوثيقة نبدي بعض الملاحظات حول الكيفية التي خرجت بها وجعلتها محل نقاش وقبول واسعين. لقد أشرك الأزهر في وضع هذه الوثيقة ثمانية من علمائه المعروفين بالانفتاح والعقلانية، وحوالى «20» من المثقفين والمفكرين المشهورين، واثنين من المسيحيين النشطين في المجال الفكري والإعلامي والقريبي الصلة بالكنيسة القبطية. وهذا حدث غير مألوف في تاريخ الأزهر المعاصر. ويقول معدو الوثيقة بأنها غير فقهية لذلك لم تعرض على مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وأنها غير ملزمة لأية جهة ولا تمثل إلا رأي الموقعين عليها بمن فيهم شيخ الأزهر الشريف، ومطروحة للأمة للحوار والنقاش العام وقابلة للتعديل، لعلها تسهم في الخروج من خلالها بإجماع وطني لصياغة دستور البلاد. قالت الوثيقة بأن المجتمعين توافقوا على المبادئ التالية: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها الحاكمة ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث يكون التشريع سلطة يختص بها نواب الشعب لأن الإسلام لم يعرف في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه مفهوم الدولة الدينية الكهنوتية، وتكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع بما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية. اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر، بما يضمنه من تعددية سياسية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسؤولين، وإدارة شؤون البلاد بالقانون والقانون وحده، وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها. الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع. الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن. تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية والمتسقة مع الخبرة الحضارية للشعب المصري. الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية، والحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة القيم الحضارية المصرية. اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضاري في مصر، وحشد طاقة المجتمع لمحو الأمية واستثمار الثروة البشرية. إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد والقضاء على البطالة، مع اعتبار الرعاية الصحية واجباً على الدولة تجاه كل المواطنين. بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الأفريقية والعالمية، ومناصرة الحق الفلسطيني، والحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، واسترجاع الدور القيادي التاريخي لمصر على أساس التعاون على الخير المشترك لمصلحة الشعوب. تأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر وعودة «هيئة كبار العلماء» التي كانت تقوم بترشيح واختيار شيخ الأزهر، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري ليسترد الأزهر دوره الفكري الأصيل وتأثيره العالمي. ونحسب أنها وثيقة جيدة ورائدة بالنسبة للمؤسسات الدينية التقليدية، وأن مشاركة العلماء والمفكرين والمسيحيين في صياغتها هو الذي أعطاها البعد الوطني المطلوب والتوازن بين المبادئ الإسلامية ومقتضيات الدولة الحديثة، وجعلها تتعرض لكثير من القضايا الدستورية المهمة التي عادة ما يغفلها العلماء المحافظون حين يتحدثون عن علاقة الدين بالدولة. وبعد هذا الاستعراض المختصر لهذه الوثيقة المهمة نسأل أصحاب الاتجاهات المتباعدة في قضية الدستور: ماذا تقول التيارات والتنظيمات السلفية في هذه الوثيقة الأزهرية المستنيرة؟ هل فيها ما يحرمه الدين أو يتناقض معه؟ وماذا يأخذ أتباع الديانات الأخرى والعلمانيون على طرح هذه الوثيقة كأساس لعلاقة الدين بالدولة؟ ما هي المبادئ التي يرفضونها في هذه الوثيقة؟ وماذا يريدون أن يضيفوا إليها؟ وأرجو أن نستفيد من تجربة هذه الوثيقة في عقد توافق وطني جامع حول الأسس والمبادئ التي تعيننا في وضع دستور السودان المقبل.