في ظل حديث عن سيطرة المؤتمر الوطني على أكثر من 90% من عضوية الهيئة البرلمانية القومية والمجالس التشريعية بالثمانية عشر ولاية، فإن حجب الثقة عن أحد أعضاء الأجهزة التنفيذية مركزياً وولائياً يعد أمراً مستبعداً، إلا أن شواهد تؤكد حدوث هذا الأمر وإمكانية تجدده، ويعتقد مراقبون أن أداء السلطات التشريعية لأدوارها يتوقف على أمرين، أولهما تخلص 90% من أعضائها من الالتزام الصارم بموجهات المؤتمر الوطني لكتلة النيابية أو حدوث صراعات سياسية بذات الحزب تنعكس ظلالها على الأداء البرلماني، فهل هذا الاعتقاد صحيح أم لا؟. سنار والمعركة الأولى قبل الإجابة على التساؤل السابق لابد من استعراض عدد من النماذج للهيئات التشريعية الاتحادية والولائية التي دخلت في مواجهة مفتوحة أمام الأجهزة التنفيذية وأدت بعض منها إلى حجب الثقة عن مسؤولين فيما باءت أخرى بالفشل، وأول معارك حجب الثقة دارت رحاها بولاية سنار قبل انتخابات 2010 بين الوالي السابق أحمد عباس وأعضاء المجلس التشريعي الذين استندوا على المادة 179 من الدستور والتي تُتيح للمجالس التشريعية بالولايات سحب الثقة عن الوالي بعد مرور عام على جلوسه في منصب الوالي، وكادت تلك الواقعة أن تُرسي أدباً جديداً وثقافة غير مألوفة في عهد الحكم الحالي بيد أن محاولات الأعضاء باءت بالفشل بعد أن رجَّحت كفة الأصوات المؤيدة لبقاء عباس بفارق قليل على المناهضة لوجوده، وأيضاً كانت ظلال الخلاف السياسي داخل المؤتمر الوطني بسنار حاضرة بقوة حينما تم تقديم مقترح حجب الثقة من عباس الذي استمر والياً حتى العام 2015م قبل أن يترك موقعه في تعديلات أجراها الرئيس لاحقاً على مناصب الولاة. غرب دارفور والريادة وقبل سحب الثقة من وزير الرعاية الاجتماعية بالبحر الأحمر فإن مساعي الإقالة عبر تصويت أعضاء المجالس التشريعية لم تكلل بالنجاح سوى مرتين وذلك حينما سحب تشريعي ولاية غرب دارفور الثقة من وزير الصحة أحمد إسحاق مدني الذي كان ينتمي للتحرير والعدالة وذلك لأن الأعضاء أكدوا وقتها أن بيان الوزير أمامهم حوى معلومات غير صحيحة، ثم جاء ذات المجلس وأبعد رئيسه أيضاً بسيف حجب الثقة، وذلك باعتراف مصطفى محمد إسحاق الذي كشف وقتها عن سحب الثقة عنه بتوقيعات ثلثي أعضاء المجلس، واتهم إسحاق وقتها جهات - لم يسمها - بالتخطيط لمؤامرة تستهدف عدداً من قيادات العمل بالحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني بالولاية، مؤكداً أنه سيعمل مع الحزب كعضو فاعل للدفع بمسيرة البلاد إلى الأمام مع تفرغه للتنقيب عن الذهب للمساهمة في رفع الاقتصاد القومي وتطوير التعدين التقليدي. وكان تشريعي ولاية غرب دارفور قد أرجع، وقتها، مبرر حجب الثقة عن رئيسه، إلى عدم تفرغه لعمله الدستوري وتركيز جل جهده على عمليات التنقيب عن الذهب. خطوة جادة بالشمالية في الولاية الشمالية كاد المجلس التشريعي أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه وذلك حينما اتخذ خطوات جادة في عهد الوالي الراحل فتحي خليل لحجب الثقة عن وزراء المالية، التخطيط والزراعة، لعدم مثولهم أمامه علاوة على تحفظات الأعضاء حول أداء وزارتهم، وكانت كل إجراءات حجب الثقة من الوزراء قد اكتملت وتقرر أن يخضع الإجراء للتصويت في جلسة عادية حسبما تنص اللائحة، وكان سبب غضب أعضاء المجلس من الوزراء الثلاثة وقتها عدم احترامهم للبرلمان المحلي علاوة على فشلهم في أداء مهامهم التي كان من بينها كهربة المشاريع، بالإضافة إلى تلمس المجلس عدم رضا المواطنين من أداء الوزراء الثلاثة ومردود حكومة الولاية. صراع مكتوم ووقتها أرجع الكثيرون خطوة تشريعي الولاية في اتجاهه إلى سحب الثقة من الوزراء الثلاثة بخلاف الأسباب التي كشف عنها أعضاؤه، إلى وجود صراع مكتوم كان يدور داخل المؤتمر الوطني بين تيارين أحدهما يدين بالولاء للوالي السابق عادل عوض، والتيار الثاني هو الذي كان يرى أن فتحي خليل يبذل مجهودات مقدرة من أجل إنفاذ مشروعات تنموية وخدمية بالولاية وهذا التيار كان يناصب عادل عوض العداء، ويومها قطع الكثير من المراقبين بأن ما حدث داخل المجلس التشريعي كان إسقاطات لما يدور داخل الحزب من صراعات، إلا أن عضو المجلس التشريعي وقتها عبد العزيز كامل الشروني نفى وجود صراعات داخل المؤتمر الوطني بالولاية، وقال إن المجلس التشريعي به 46 عضواً من المؤتمر الوطني وأجمعوا على سحب الثقة من الوزراء الثلاثة وهذا يعني عدم وجود خلافات بينهم، وحتى إذا كانت موجودة كما روَّج البعض فلا يمكن نقلها إلى المجلس التشريعي. كرم الله والشرب من الكأس ذات مصير حجب الثقة واجهه والي القضارف الأسبق كرم الله عباس الشيخ، وقد أرجع وقتها مقدم مقترح حجب الثقة عن الوالي العضو أبوبكر دج، مسعاه الذي لم يكلل بالنجاح، إلى فشل والي الولاية كرم الله عباس الشيخ في التكليف وعجزه عن تحقيق إنجاز يحسب للمؤتمر الوطني ويقنع المواطن بجدوى الأطروحات الانتخابية التي رفعها الحزب وأعلن عن إنزالها على أرض الواقع بعد فوز مرشحه بمنصب الوالي، وأكد أن الدستور يكفل لأعضاء المجلس التشريعي بعد اكتمال النصاب المطلوب، حجب الثقة عن الوالي إذا لم يستطيع تحقيق تطلعات المواطنين وفشل في أداء واجبه، ولم يؤيد الطلب إلا نائب واحد بجانب مقدم الطلب وامتنع ستة أعضاء عن التصويت ووقف ضده ثلاثون عضواً، ويلزم القانون ثلثي أعضاء المجلس بالتصويت تأييداً لسحب الثقة عن الوالي طالما أنه وصل منصبه بالانتخاب وليس التعيين، ويومها أكد رئيس المجلس عقب الجلسة العاصفة أن المجلس يتعامل في القضايا كمؤسسة وليس أفراداً وأنه مارس تجربة برلمانية غير مسبوقة على مستوى السودان، مؤكداً استماع المجلس لكافة آراء الأعضاء والرأي الآخر واحترام رأي الأقلية، مؤكداً قدرة المجلس على الاضطلاع بدوره وفقاً للوائح والدستور وقال إن تباين الآراء والاختلاف حول القضايا لا يمنع السير في الطريق الصحيح، وأيضاً كانت ظلال الصراعات السياسية حاضرة في مقترح حجب الثقة من كرم الله عباس الشيخ وقتها والذي كان على عداء مع عدد من المجموعات داخل حزبه، والغريب في الأمر أن ذات المجلس التشريعي الذي رفض قبول حجب الثقة عن الشيخ جاء وقبل استقالته التي قدمها بعد أن تعرض لضغوط من المركز. البحر الأحمر.. فشل ونجاح في العام 2014 سعى نواب بتشريعي البحر الأحمر، لسحب الثقة عن الوالي السابق محمد طاهر أيلا إلا أن خطوتهم أجهضت سريعاً، وذات المجلس الذي عجز عن المضي قدماً في مشروع سحب الثقة عن الوالي محمد طاهر أيلا جاء بعد عامين وسحب الثقة عن وزير الشؤون الاجتماعية والثقافة والإعلام بالولاية الدكتور محمد بابكر بريمة بأغلبية وصلت إلى أكثر من (40) عُضواً من جُملة عضوية المجلس البالغة حوالي (48) عضواً، وتعود التفاصيل إلى أنّ المجلس التشريعي بولاية البحر الأحمر كان قد استجوب وزير الشؤون الاجتماعية بالبحر الأحمر محمّد بابكر بريمة في جلسة طارئة قَطَعَ لها إجازته حول الدراسات المُعدّة لتنفيذ مُستودعات التدخلات المجتمعية في إطار جُهُود الدولة للحد من الفقر، حيث تبلغ قيمة المشروعات حوالي (19) مليار جنيه وهي مُقدّمة للولاية من وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي الاتحادية، ووصف أعضاء المجلس الدراسات المُقدّمة للمشروعات بعدم المعقولة، إلا أن قرار الأعضاء لم يصمد طويلاً بعد رفضه من قبل الوالي ثم قرار المركز حوله الذي وبعد الاستماع إلى كافة الأطراف قرر استمرار الوزير. الجزيرة ونذر المواجهة ظل المجلس التشريعي بولاية الجزيرة يصنف من ضمن أكثر البرلمانات الولائية حراكاً ومواجهة للجهاز التنفيذي، وشهدت فترتا الواليين الزبير بشير طه والمهندس محمد يوسف عدداً من المواجهات المحتدمة، ومضى المجلس على ذات نهجه مع الوالي الحالي وذلك حينما أسقط المجلس قانون إنفاذ التنمية بالولاية، بأغلبية (43) مقابل (10) أصوات، لجهة أن القانون يتعارض مع الدستور وقانون الحكم المحلي، في المادة 60/1 و113 من الدستور والمادتين 44/ 45 من قانون الحكم المحلي لسنة 2006م مما استوجب إسقاطه، وتلزم المادة 113 من الدستور الولاية بتخصيص الموارد المالية للمحليات بتنفيذ التنمية وتسيير خدماتها بنسبة 70 % للتنمية و30% لمال التسير، بينما تنص المادة 60/1 من الدستور على صلاحيات الحكم المحلي لبسط خدمات التنمية تخطيطا وتنفيذا ورعاية، وبرر المجلس رفض القانون بأنه يسلب المحليات حقها الدستوري والقانوني، وكان ذات المجلس قد توعد اثنين من الوزراء تخلفا عن المثول امامه في شهر اغسطس بمصير لم يحدده في حالة تكرار الغياب وفسر البعض وقتها الأمر باعتزام المجلس سحب الثقة عنهما إلا أن الوزيرين مثُلا أمامه بعد أسبوع، ويتوقع أن يكون لهذا المجلس وجود مؤثر في المرحلة القادمة بعد أن طفا الصراع بينه والجهاز التنفيذي للولاية على السطح بقوة. المجلس الوطني والقانون الغريب في بداية هذا العام وقع 160 عضواً بالمجلس الوطني على استمارة بغرض عقد جلسة طارئة لحجب الثقة عن وزير المالية بدر الدين محمود بسبب أزمة أسعار الغاز 160 توقيعاً، وتصدرت قائمة المساندين للخطوة أسماء نائب الرئيس عائشة محمد صالح من الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، ورئيس لجنة النقل السماني الوسيلة من الحزب الاتحادي، ورئيس لجنة الإعلام عمر سليمان من الأمة الفيدرالي، رئيس لجنة الزراعة علي مسار من حزب الأمة الوطني، ورئيس لجنة التعليم الخير النور المبارك، من جماعة أنصار السنة، بجانب (8) نواب ورؤساء لجان منهم قيادات بارزة في الحزب الحاكم. المثير في القصة أن تلك الخطوة لم تكتمل، أما الغريب فهو أن السلطة القائدة للعزل لم يتم تفعيلها طوال السنوات الماضية. حتى في ظل وجود المادة 45 من لائحة أعمال المجلس الوطني التي تخول لعشرين عضواً استدعاء الوزير للاستجواب وإذا لم يثق النواب في إجاباته، يمكن لأحد النواب أن يطرح مشروع قرار برفع توصية لرئيس الجمهورية لعزل الوزير إذا اعتبروه فاقداً للثقة، بناء على عدم قناعة الأعضاء بما قدمه من إجابات. وإذا تم قبول مقترح النائب بعزل الوزير من نصف النواب يعتبر القرار ملزماً للجهاز التنفيذي. الثابت أن اللائحة تشير إلى أن البرلمان يمكنه سحب الثقة من أي وزير اتحادي من خلال رفض خطاب الوزير أو قراره لأن ذلك يعني ضمنياً في حضور النصاب القانوني للمجلس سحب الثقة عنه، أو أن يخاطب الأعضاء رئيس البرلمان مطالبين بإبعاد الوزير عبر رئيس الجمهورية. ومع ذلك فإن بعض الوزراء تم رفض خطاباتهم أمام البرلمان ولم يتم إبعادهم عن مناصبهم، وهو ما حدث مع وزير العدل الذي جاء إلى البرلمان حاملاً خطاباً بعد أقل من أسبوع من تعيينه وألقاه أمام النواب الذين رفضوا الخطاب، ولكن تم استبقاء الوزير كان بحجة أن تم تعيينه حديثاً. ظلال صراعات يستعيد العضو السابق بتشريعي ولاية البحر الأحمر، حامد ادريس، ذكريات عضويته بالبرلمان الولائي التي استمرت لأربعة أعوام وانتهت قبل انتخابات 2015، ويشير إلى أن تجربته أثبتت له أن المجالس التشريعية لا يمكنها أن تؤدي أدوراها التشريعية والرقابية، ويشير في حديثه ل(الصيحة) إلى أن أكبر العقبات التي تقف أمامها استحواذ المؤتمر الوطني على عضويتها بشكل شبه كامل، وقال: "وضح جلياً أن الالتزام الحزبي لعضوية المؤتمر الوطني بالمجالس التشريعية أقوى من اهتمامهم بقضايا المواطن، والكثير من القضايا أوضحت لنا هذه الحقيقية، ففي الوقت الذي يحتم عليهم الانحياز إلى قضايا المواطن الذي انتخبهم يختارون الانصياع لموجهات الحزب ضاربين بمصلحة ناخبيهم عرض الحائط". ويؤكد حامد إدريس أن المجالس التشريعية ستظل مجرد إكمال لمنظر الحكم ولن يكون لها دور مؤثر اتحادياً وولائياً في ظل هيمنة المؤتمر الوطني، ويرجع الخلافات الأخيرة بين بعض الأجهزة التشريعية وحكومات الولايات إلى وجود خلافات سياسية، اعتبرها المحرك الاساسي لما يدور داخل البرلمانات المحلية، ويرى أنه كلما زادات الصراعات داخل المؤتمر الوطني تحولت المجالس التشريعية إلى ساحات لتصفية الحسابات، وقطع بعدم إمكانية أداء المجالس التشريعية لأدوارها كاملةً إلا في حالة دخول أعضاء لا علاقة لهم بالحزب الحاكم للبرلمانات. الصيحة