"أقَرّ المؤتمر الوطني بمسؤوليته عن نتيجة الإستفتاء لكونه الحزب الأكبر في الحكومة، بيد أنه أكد أن الحركة الشعبية هي المسئول الأول عن الانفصال. وقال بروفيسور إبراهيم غندور الأمين السياسي بالوطني : إن الحرب الجهادية التي شنتها الإنقاذ على الجنوب قبل نيفاشا هي التي حَقّقت السلام، وأضاف: لولا المشروع الجهادي لما وقّعت الحركة الشعبية على السلام". هذا ما أوردته صحيفة الرأي العام السودانية والذي أوردناه هنا من قبيل: وشهد شاهد من أهلها. يمكن اعتبار إعلان استقلال جنوب السودان كبداية مرحلة جديدة يتحقق فيها السلام بين الشمال والجنوب إذا توفرت النوايا الحسنة لدي الطرفين وتوفرت الإرادة السياسية لصيانة هذا السلام. هذا من ناحية نظرية بحتة. ولكن من يقرأ تصريحات الرئيس البشير بشأن منطقة ابيي الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين الشمال والجنوب، القائلة باحتمال رفع نظام الخرطوم للسلاح في حالة عدم التوصل إلى حل بشأن هذه المنطقة ، يدرك مدي هشاشة السلام الذي تم التوصل إليه. من ناحية أخرى تنذر الحرب الدائرة الآن في جنوب كردفان بالانتقال إلى منطقة النيل الأزرق وهي المناطق ذات الوضعية الخاصة التي لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها ضمن اتفاقية السلام الموقعة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ونظام المؤتمر الوطني في الخرطوم بقيادة الرئيس عمر البشير، والتي ترك حسم أمرها لما سمي بالمشورة الشعبية. إعلان الحرب في جوهره مسألة خيار سياسي. تقول المواضعات والظروف بأن نظام البشير ليس في مصلحته التورط في حرب جديدة إن كان ينوي الاستمرار في الحكم. ولكن طبيعة النظام وتركيبته والطريقة التي وصل بها إلى سدة الحكم تقول بأن خيارات البشير الأخرى باتت محدودة. الحرب التي سماها الحزب الحاكم جهادية تخفي وراءها ما حدث للمؤسسة العسكرية منذ فجر انقلاب الجبهة الإسلامية في العام 1989 ، حين شرعت في تفكيك الجيش السوداني الذي كان يأخذ شكل الجيش المحترف المستقل ، المتعدد الإثنيات وتحويله إلى جيش عقائدي يتبني مفهوم الجهاد المقدس ضد قوى الكفر في جنوب السودان. وفكرة الجيش العقائدي تحمل في طياتها أن الولاء أهم من الكفاءة، وهو مبدأ أدى تطبيقه إلى تشريد أعداد كبيرة من غير المنتمين لتنظيم الجبهة الإسلامية والمؤتمر الوطني فيما بعد. كما أن نفوذ صغار الضباط من النافذين من المنتمين للتنظيم الإسلامي كان أكبر من نفوذ الذين يعلوهم رتبا داخل الجيش، الأمر الذي يمس التراتبية التي تميز الجيوش النظامية والتي تحقق الانضباط الذي لا تقوم قائمة لمؤسسة عسكرية بدونه. إذا أضفنا لذلك ما تشيعه أجهزة التوجيه المعنوي لجيش المؤتمر الوطني والتلفزيون الرسمي لجمهورية السودان من خرافات حول فكرة الجهاد في جنوب السودان، والأشجار التي تهلل وتكبر والقردة التي تقاتل إلى جانبهم وتساعد في تفجير الألغام المزروعة والحور العين اللائي ينتظرن الشهداء ، إذا نظرنا لكل هذا ندرك مدى الخراب الذي أصاب الجيش السوداني ومدى الوهم المعشعش في ذهنية أفراده بفعل تحويل عقيدته القتالية من الدفاع عن الدولة والتراب والدستور السوداني، إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية في بلد متعدد الأديان والإثنيات والثقافات. هذا من ناحية المؤسسة العسكرية التي يتوقع أن يسودها الانضباط أيا كانت درجته. ما فعله نظام الإنقاذ برئاسة البشير هو تخلي الدولة عن احتكار أجهزة العنف. بمعني أن الدولة هي التي تسيطر على الجيش والشرطة والأجهزة النظامية الأخرى التي تحمل السلاح وتستخدمه وفق مقتضى القانون. تخلت الدولة عن هذا الاحتكار المميز للدولة المدنية الحديثة لصالح ميليشيات الدفاع الشعبي ذات التعبئة الجهادية إضافة لتوزيع السلاح على المدنيين من القبائل الموالية للنظام في كردفان ودارفور. تخلي الدولة عن احتكار العنف خلق وضعية تؤدي لعدم الثقة في الدولة كفكرة وكجهاز يعمل بشكل مستقل ومتعالي على الجميع، هذا يؤدي بدوره إلى خلق إحساس لدى قطاعات كبيرة بتدبير أمانه الشخصي بنفسه إما بالانضمام إلى الحركات المسلحة الكثيرة في إقليم دارفور أو وحدات الحركة الشعبية قطاع الشمال في كردفان والنيل الأزرق التي لا تزال تحتفظ بسلاحها، وربما باللجوء أيضا إلى إنشاء حركات مسلحة أخرى. يقول التاريخ إن الجيوش هي مؤسسات مخصصة ومهيأة للعمل ضد القوى الخارجية التي تهدد أمن البلد ونظامه السياسي، و أن أوقات السلم هي الأكثر حرجا وهي المحك ا لذي يختبر فيه انضباط الجيش بعدم تدخله في الشأن المدني والسياسي. وبما أن الانضباط قد ضعف وتخلخل في الجيش السوداني بوضعه الحالي، فإن الركون إلى ضمان عدم تدخله يعتبر مغامرة قد يسعى لتجنبه حزب المؤتمر الوطني الحاكم وذلك بخلق مشاغل حرب جديدة ينخرط فيها الجيش. كما أن الإصرار على مواصلة التوجه الجهادي وتعزيز دولة الشريعة الإسلامية الذي وعد به الرئيس البشير عقب انفصال الجنوب المسيحي ، سيؤدي للمزيد من الفرز بخلق جبهة جديدة تصلح لإعمال مبدأ الجهاد فيها. في هذه الحالة فإن منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق هي الجبهات المرشحة كمسرح للحرب، إن لم يكن بسبب الكفر هذه المرة، فربما بسبب فرض نسخة أخرى من التدين الصحيح بحسب فهم المؤتمر الوطني. أو ربما بسبب السحنة الأكثر إفريقية . من يدري فربما يجد المؤتمر وجهازه الإيديولوجي تخريجات فقهية جديدة تبيح مثل هذه الحرب وتشرعها. اذاعة هولندا العالمية