الجزيرة التي ترقد في حضن النيل، لم تكن مجرد رمال وأرض يابسة في وسط الماء، بل كانت نتاجاً لحضارة عريقة ونضالات وتواصل اجتماعي وتماسك بأرض فيها ما فيها من البأس وبها الأحلام والأهل والأصدقاء، وفيها من الأسرار والحكايات ناصف دهشة النيل، وهي الجزيرة التي تقع في قلب الخرطوم تماماً، حيث يبدأ منها نهر النيل جريانه منفردا بخيلاء وكبرياء بعد أن حقق اقترانا نادرا عند ما يعرف بمقرن النيلين (1) الكثير من الكتابات التي وثقت لجزيرة توتي ولا تزال، منها ما كتبه الشاعر عباس عبد الرحيم في مؤلف شعري تحت عنوان (توتي يا بلد الرجال)، وتنطلق التسمية من كونها أحد المناطق ذات الطبيعة القاسية بحكم وقوعها في وسط النيل، حيث يمكن للمياه أن تدهمها في كل لحظة كما حدث من قبل، وحيث أن أهلها لم يغادروها كما خلدت الكثير من الحكايات عن ذلك، ونالت بذلك شهادة من الأممالمتحدة عندما اختيرت ضمن ثماني مناطق في العالم لدرء الفيضانات والكوارث بالعون الذاتي. (2) ويوثق الشاعر عباس عبد الرحي في ديوانه الشعري (توتي بلد الرجال)، للحقب التاريخية المختلفة والأماكن وينثر بيوت شعرية في صد أهالي توتي لفيضان النيل في العام (1946) بقوله: في ستة وأربعين مرحب حباب النيل.. نحن بنخبرك ديمة بخيرة رجال طيبين رجعناك برجال كالأسود منعو وحرسو ما سال سيلنا وفي العام (1988) سطر الشاعر عباس مخلدا وقفة أهل توتي في مواجهة الفيضان منشدا: في ثمانية وثمانين ملحمة بطولة من أطفالنا لي خيرة شبابنا الصددوك قبيل انكسرت يوم اتنين وعشرين ثمانية ترايخا عرفو الأجنبي والدخيل وتمضي القصائد من ديوان توتي تخلد المواقف الكبيرة لأهلها بلسان ابنها عباس، عندما يمدح كبري توتي الذي تم تشييده بعد معاناة دائمة لأهل الجزيرة مع (المعدية) رغم ذكرياتها الحلوة معهم، ويقول: بقدومك تصبح باريس أبراجها ملونة وبرقان خلاص خطرنا راح بنتممة وفي الهوج بروج ما أحسنها (3) وعلى ضفة النيل الشمالية داخل جزيرة توتي توجد الطابية التي استخدمها الأنصار لمناهضة المستعمر، ولاتزال الطابية تؤرخ لمرحلة مهمة، لصد الغزاة الذين كانوا يستدمون حركتهم بواسطة النيل، فيما يعد نادي توتي الثقافي الملمح الأهم في المدينة لما يقدمه للأهالي من ليالٍ ثقافية شهرية، يتم فيها تناول سيرة الفنون والثقافة السودانية، ومنتدى الحردلو على فناء في ضفة النيل يقدم هو الآخر ليالي إبداعية لفنانين قدامى. (4) ورغم حركة النهضة التي شهدتها جزيرة توتي إلا أن أهلها لا يزالون متمسكين بماضيهم، خاصة في ما يتعلق بالأماكن التي كانت محلا للأنس والسمر، ومن ضمن تلك المناطق (المرسى)، وهو المكان الذي كانت تربض فيه (معدية توتي)، ويقول الشاعر عباس في المرسي: كان مرسانا ويا له من مسي فيه لقيانا والمعدية ترسو فيه بكل امن وامانا رغم التعب والمعاناة لقد كانت فيه دنيانا (5) ولأهالي توتي محبة كبيرة مع النيل، فهناك من ظل على رفقة مع النيل طوال سني عمره، وهناك من جعل منه مكانا للإلفة والرزق، ويجيد معظم القاطنين في الجزيرة التي تحمل أسرار النيل السباحة وعمليات الصيد، ويتكيفون مع بيئته، فيما تعد جزيرة توتي التي تقع في قلب الخرطوم إحدى أشهر المناطق لإنتاج الخضر والفاكهة لما تتميز به من القطاع البستاني، وهي واجهة سياحية ليس لها نظير في البلاد. اليوم التالي