(أعظم الخلافات لا تحدث بين شخصين، بل بين شخص واحد ونفسه).. غارث بروكس ..! طقبل نحو أربع سنوات كانت صحف الخرطوم تسأل بعض السياسيين في حزب المؤتمر الوطني عن طبيعة علاقتهم بحزب المؤتمر الشعبي، وكان بعضهم يجيب بكلام على غرار: إن الخلافات السياسية لا تؤدي بالضرورة إلى القطيعة.. وإن هناك فرقاً بين الجفاء والقطيعة.. وإنهم ليسوا أعداء للشعبي.. فضلاً عن (الوشائج) الاجتماعية التي لم تنقطع بسبب الخلافات السياسية.. إلخ.. إلخ.. لكن تلك التصريحات لا ولم تشكل فارقاً يذكر في علاقة هذا الشعب بذاك الحزب أو هذه الحكومة..! درجة حرارة العقول والأفئدة والجيوب في هذه الخرطوم لم تكن تحتمل (نظرات) المنشقين أو (عبرات) الباقين.. وحال التململ الاقتصادي والسأم الاجتماعي في كل أصقاع السودان.. لم تكن تسمح بأدنى درجات الاهتمام بعلاقة المحاربين القدامى بالإنقاذيين الجدد.. باختصار لم تكن تلك (السَخَانة) التي يتلظى بها هذا الشعب – ولا يزال - تحتمل الحديث عن (وشائج) الوطني والشعبي..! اليوم بعد أن دارت دفة الحوار نحو حكومة وفاق وطني، عادت التصريحات - عن موقف الشعبي من الوفاق مع الوطني - تتصدر عناوين الصحف.. (الشعبي ينعي الحريات ويقول إن الباب مفتوح على كل الخيارات).. (الشعبي يتهم رئيس اللجنة البرلمانية الطارئة بالتزوير).. (الشعبي لم يسلم قائمته لكنه سيشارك في الحكومة).. إلخ .. إلخ ..! بصراحة – ومن الآخر - معلوم لدى كل فئات وطبقات هذا الشعب أن خلافات المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي السابقة، وأن اختلافاتهما اللاحقة – حول تلك المتون والحواشي الدستورية - ليست (شعبية) على الإطلاق.. بل هي موازنات لحسابات حزبية، ورهانات في لعبة الكراسي، لذلك كانت ولا تزال حبيسة صالون المؤتمر الشعبي، وحجرات المؤتمر الوطني، و(حيشان) الحركة الإسلامية .. أما هذا الشعب فهو بعيد كل البعد عن مطابخها، وهو بريء – كل البراءة - من آمالها العريضة ومآلاتها المفترضة ..! هل تريد مثالاً على عدم شعبية – ولن أقول وطنيَّة - تلك الخلافات؟!.. ذلك التصريح الشهير الذي تصدر عناوين الصحف – قبل سنوات - بشأن (عدم إدانة حزب المؤتمر الشعبي لأحداث أم روابة وأبو كرشولا التي أتت كنتيجة طبيعية لسياسات النظام، وإدارته للحروب البشعة والعنصرية، وثقته الكاملة في الشعب السوداني لقيادة التظاهر في هبة واسعة بكل ولايات السودان لاقتلاع هذا النظام).. أرأيت.. ثم رأيت؟!.. هذا أولاً..! أما ثانياً، فهذا الشعب - قبل رجعة هذا الحزب أو مراجعات ذاك – كان ولا يزال يدير ظهره لأي خلاف سياسي لا يعنيه.. وسيظل سواده الأعظم شاجباً ومندداً بخطل الأحزاب، ومطالباً باستقامة عوجها، ومتشككاً في تفعيل الديمقراطية الحقة داخل أسوارها، قبل أن تطالب هي ببعض حرياته..! المؤتمر الشعبي كان وسيظل يتشارك المسؤولية التاريخية مع المؤتمر الوطني، لأنه بارك يوماً مصائب سياسية كثيرة كان الشعب - الذي يخاطبه اليوم من خندق الحزب الآخر - يتابعها بمزيج من السخرية وطيب الخاطر!.. لو لا أن تلك الكوميديا السوداء قد تحولت إلى ميلودراما، اكتسب فيها صوت العنصرية والقبلية، والتمييز المهني المتلفع بأثواب التمكين - وتضييق الخناق على ذات الحريات المختلف عليها اليوم - شرعية سياسية في وقت مضى .. والآن ما الذي يتوقعه (الشعبي) من هذا (الشعب) يا ترى.. أكثر من أي وقت مضى ..؟! الشيخ حسن الترابي – رحمه الله - قال مخاطباً المصلين في مسجد العيلفون قبل سنوات (أسأل المولى أنّ يغفر لنا ما ارتكبناه من ذنوب كبيرة.. نحن مسؤولون أمام الله عن التفكك الذي أصاب البلاد) .. نشهد الله أنها كلمة حق..! اخر لحظة