{ احتدمت من جديد ظاهرة اختناق حركة المرور في مدن الولاية الثلاث، ولازالت الثقافة السائدة تذهب باتجاه صناعة المزيد من الجسور والأنفاق، ولا أحد بطبيعة الحال يرفض أن تُطرّز عاصمتنا بالجسور الطائرة والأنفاق، فهذه سمة العواصم من ذوات السبعة نجوم، غير أن هذه الثقافة في السودان تبدو كنصيحة (البصيرة أم حمد)، فقد أشارت تلك المرأة البصيرة إلى قطع رأس الثور، ثم لم تلبث أن أمرتهم بكسر الجرة، فخسر القوم الجرة والثور معاً. فلا أعتقد أن الأولوية عندنا أن نهلك ما بأيدينا من ميزانيات في صناعة هذه الجسور، غير أن أزمتنا المرورية تتجلى في مداخل ومخارج هذه الجسور نفسها، فالأنفاق الطائرة هي الصناعة الأشهر والأنسب لعهد الرفاهية، فأمة تبحث عن الخبز والسكر والغاز يجب أن توفِّر ميزانياتها للضروريات والأولويات. { وصاحب هذه الملاذات، من جهة، ليس قلق من عمليات ازدياد السيارات، فهذه طبيعة الأشياء، لكن القلق الأكبر ناتج من عبقريات البعض التي تحصر حركة الناس والسيارات في هذا المربع الذهبي الذي يقع بين النهرين والمطار والسكة الحديد، وسنفشل ألف مرة لو أننا ظللنا نطرح السؤال ذاته، كيف نتمكن من إدارة حركة المرور في ذلك المربع الذهبي؟، على أن يزحف (الخرطوميون) يومياً زحف الفاتحين إلى وسط المدينة، ثم لم يلبثوا أن يزحفوا ثانية في رحلة العودة و..و... { أتصور أننا لن نستطيع أن نضع الحصان أمام العربة إلا إذا طرحنا هذا السؤال بصيغة أخرى، كيف يتسنى لنا نقل هذه الخدمات إلى المواطنين في أماكن سكنهم؟ وبصورة أخرى أن نذهب مباشرة في تفكيك «قدسية وسط الخرطوم»، أن نجعل هذه المنطقة طاردة، أن نصنع أدوات جذب أخرى في مناطق متفرقة، كأن نبدأ بمقترح تفكيك الجامعات التي تحتشد في وسط المدينة، وربما يشكِّل عدد الطلاب الذين يترددون على جامعات «الخرطوم والنيلين والسودان»، بما يشكلون نسبة 25% من جموع المواطنين الذين يتدفقون يومياً إلى وسط المدينة، ويمكن صناعة ثلاث مدن جامعية جديدة في أطراف المدن الثلاث، وغير مكسب تفريغ قلب المدينة، نكون أيضاً قد صنعنا بيئة تعليمية جيدة، وذلك بعيداً عن ضجيج المدينة وصخبها، ثم نذهب إلى المشافي التي تُرهق قلب مدينتنا، فأتصور أن نسبة المواطنين الذين يقصدون مستشفى الخرطوم والمستوصفات التي حولها والمعامل والصيدليات لا تقل بأي حال عن نسبة العشرين بالمائة من النسبة الكلية. { لنذهب مباشرة في (تشليع) هذه المشافي وتحويلها إلى مستشفيات محلية وريفية، وحتى نموذج «مستشفى شرق النيل» لم ينجح حتى الآن، فما تزال الجماهير تعبر الجسر في طريقها إلى مستشفى الخرطوم، لأن هذا المستشفى أصبح «شبه تجاري» ولا يتعامل مع التأمين الصحي، ولم يكن مستشفى للجماهير حتى يفي بالغرض الذي أنشئ من أجله، ثم نذهب بثقافة التفكيك ذاتها إلى بقية المؤسسات ومظان الخدمات، وليذهب المطار من خاصرة المدينة، ثم لترحل السكة الحديد من صدرها، ليكن قلب مدينة الخرطوم فقط للفنادق والمتاحف والقصر الجمهوري والبنك المركزي ورئاسات المصارف الكبرى، على (ألا يدخلنها اليوم مسكين)، فجموع المساكين والغلابى نوفر لهم الخدمات في مناطقهم، فبدلاً من أن يشدوا الرحال يومياً إلى قلب المدينة طلباً لبعض الخدمات، تذهب هذه الخدمات إليهم في مدنهم، حتى الحدائق والمنتزهات تذهب إليهم في محلياتهم، على أن تقفل كل الحدائق والمنتزهات التي بوسط المدينة. فثمن جسر واحد قد تصل كلفته إلى ثلاثين مليون دولار يمكن أن تصنع مدناً جامعية مدهشة تسع وتستوعب كل جامعاتنا وكلياتنا التي تزدحم بها وسط المدينة، علماً بأن المساحة التي تشغلها فقط جامعة الخرطوم على شاطئ النيل الأزرق يمكن أن توفر ملايين الدولارات، إذا ما حولتها جهة استثمارية إلى فنادق ومتاحف.. والله أعلم.