الثورة السودانية تشكل خليط من الدهشة والفخار، الامل والرجاء، او كل ما هو متوقع وغير متوقع من السودانيين . وقد تكون اللحظة المفصلية في حياة الامة السودانية بين ان تبقي او يجرفها تيار الاستبداد الي الفناء. الشئ الذي دفع الحساسية الوطنية الي نهايتها القصوي، وتاليا ليس هنالك مساحة للحياد او التذاكي او الانعزال في ابراج توهُم الحكمة وفصل الخطاب من ادعياء الحرص علي الاستقرار المفتري عليه، اي اما مع او ضد الثورة (المُعرًّفة بامتلاك الشعب لمصيره بيديه). كل ما سلف يؤكد حقيقة واحدة، ان الضائقة الاقتصادية التي اعترفت بها الحكومة مرغمة، هي واحدة فقط من تجليات الازمة الوطنية التي فاقت كل تصور، بسبب التراكم والمغالطات التي استمرت لثلاثة عقود، استنفدت فيها منظومة الانقاذ كل الفرص والامكانيات في المناورات وشراء الوقت او الاستهبال السياسي والفساد الاقتصادي، حتي المت بها الواقعة وهي في سكرتها تعمه، لتواجه مصيرها المحتوم الذي تاخر كثيرا، بوصفها وصفة اجرامية مكتملة الاركان وليس منظومة سياسية او كيان مسؤول اوجماعة راشدة باي معيار . والثورة بهذا الوصف، ليست ترف نخبة او يوتوبيا شباب حالم او مدخل لاحزاب سياسية وحركات مسلحة للسلطة، ولا هي كذلك تصفية حسابات شخصية او سياسية سواء مع منظومة الانقاذ التالفة او رموزها الساقطين، ولكنها تشكل قطيعة كبري مع مفاهيم وسياقات سياسية واجتماعية وثقافية، قادت بدورها الي هذه اللحظة المفصلية، والتي مثلت فيها منظومة الانقاذ آخر واقصي افرازاتها العدمية . وهو ما يجعلها تختلف عن ثورات اكتوبر وابريل، كثورات مع وقف التنفيذ؟ بمعني هي ثورة تستهدف تغيير الأُطر والمقاربات السياسية والوطنية، بما ينفتح حقيقيا تجاه الحرية والكرامة والسلامة والعدالة. وتاليا ما يمنح هذه الثورة معناها الجوهري او زخمها و قوتها الدافعة، انها تستهدف مباشرة اسقاط النظام، كمدخل لمعالجة جذور التهميش والاقصاء والوعود الكاذبة والشعارات الجوفاء، وتغييب الشفافية وغياب المسؤولية وبكلمة واضحة، القطع مع ابتذال السياسة واحتكار السلطة ومن ثم توظيفها ضد المواطنين بعد تجريدهم حق المواطنة. وكدلالة بسيطة علي ذلك، نجد ان عصب هذا الحراك يشكله الشباب وفي القلب منهم الشابات الجسورات (اي من هم خارج الحسابات السياسية). والابعد من ذلك، ان ادوات التغيير نفسها طالها التعديل، وبما فيها او اهم فيها، الصمود الاسطوري و النفس الطويل، رغم ان الخصم ليس مجرد من شرف الخصومة فقط، ولكن للاسف حتي من ابسط مقتضيات الانسانية والاعراف السودانية. وهو ما يشير بدوره الي ان شعلة الثورة اخرجت افضل ما في السودانيين بعد ان اجبرهم نظام الانقاذ الاجرامي الفاسد علي اخراج اسوأ ما فيهم. وبكلمة مختصرة، لاول مرة تصبح القضية الوطنية وعلي راسها المسألة السياسية، ليست شانا خاصا بالاحزاب والنشطاء والحركات المسلحة او رد اعتبار لمناطق طالتها حرائق الكره والعنصرية والحقت اهلها بقوافل اللجوء والنزوح، ولكنها اصبحت قضية بقدر ما هي شخصية تمس كل من يعتقد انه مواطن له كافة الحقوق وليس مجرد رقم في سجلات السلطات المستبدة، بقدر ما هي قضية عامة وعابرة لكل الانتماءات والمكونات المتساكنة في فضاء الوطن الفسيح. الرحمة الواسعة تتغمد الشهداء وتعجل بشفاء الجرحي وتفك اسر المعتقلين والوطن من قبضة الرباطة الموتورين. السقوط لكافة المنظومة، والوطن للجميع. ودمتم في رعاية الله.