أعاد الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات في السودان في ظل أزمة اقتصادية خانقة، التفكير في مناهج وحلول بديلة لتخفيف الأعباء على المواطنين عبر إحياء الجمعيات التعاونية غير الربحية لتوفير السلع بأسعار مناسبة للمواطنين والطبقات الهشّة، في خطوة تعكس رهانات على الاقتصاد التضامني لتجميع وتحريك الطاقات والموارد المحدودة ودفع التنمية. طالبت الأوساط الاقتصادية في السودان بإعادة إحياء الجمعيات التعاونية لتوفير السلع وتقديم الخدمات للمواطنين بهدف تخفيف وطأة الانهيار الاقتصادي والمالي جراء فساد عقود من حكم عمر البشير الذي همّش كل مقاربات الاقتصاد الاجتماعي وأغرق البلد في دوامة من الأزمات. ونقلت وكالة الأنباء السودانية (سونا) عن الخبيرة في مجال التعاونيات مها محجوب قولها، إن "التعاونيات نظام شعبي طوعي يعمل على تجميع وتحريك الطاقات والموارد المحدودة للمجتمعات لخلق كيانات فاعلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية تستطيع توفير السلع وتقديم الخدمات، فيمكن للتعاونيات أن تعمل مطاحن كبيرة للغلال ومصانع للزيوت وللنسيج، إضافة إلى الصناعات التحويلية والتعاون لا يهدف للربح بقدر ما يهدف إلى خدمة المواطن". وتضيف الأستاذة مها أن "الجمعيات التعاونية تقوم على مبادئ أهمها أن باب العضوية مفتوح والمساهمة متساوية للعضوية في تكوين رأس المال، والإدارة فيها ذاتية وديمقراطية أي أن السلطة العليا هي سلطة الأعضاء المساهمين في الجمعية التعاونية على قدم المساواة في ما بينهم ولهم حق قيادة جمعيتهم وتقرير مصيرها دون أي سلطة خارجية تفرض عليهم كيفية إدارتها. وتعتبر هذه المبادئ بمثابة دستور للحركة التعاونية في العالم". وتؤكد الخبيرة السودانية أن "النشاط التعاوني له دور فعال في تنمية المجتمع، فهو أداة من أدوات التأثير والتغيير الاجتماعي لأنه يعمل على تغيير نوعية الحياة لدى المواطنين، إضافة إلى كونه يتميز بأنه لا يتحرك بدافع الربح مثل المشروع الخاص أو بأوامر فوقية من السلطات مثل المشروع الحكومي، لكن النشاط التعاوني يتحرك بدافع إشباع الاحتياجات". وأوضحت أن "النشاط التعاوني يحرك الناس للتصرف بإيجابية لحل مشكلاتهم بأنفسهم، فهو تنمية الإنسان بالإنسان للإنسان، ويمكن تكوين جمعيات تعاونية خدمية في مجالات مختلفة لم يخضها التعاون التقليدي مثل البيئة والسياحة وغير ذلك من الخدمات التي من شأنها فتح فرص عمل للشباب والحد من مشكلة البطالة، كما تساعد على رفع مستوى دخل الفرد من خلال النشاط الإنتاجي والحرفي والزراعي." وعن تجارب التعاونيات سابقا في السودان، تروي مها أنه في عهد الرئيس النميري زاد عدد الجمعيات التعاونية بصورة واضحة جدا وقد كانت وسيلة الحكومة في ذلك الوقت لحل مشاكل الندرة في بعض السلع مثل السكر، وفي بداية الثمانينات أيضا تم إعلان التعاون كوزارة مستقلة. وتابعت بقولها إنه بعد انقلاب 1989 حدثت هجمة شرسة من نظام عمر البشير البائد على التعاون وأجيز قانون لامركزية الحركة التعاونية فصدرت قوانين للتعاون في عدد من الولايات غير متسقة مع القانون الاتحادي للتعاون وحاولت إفراغ التعاون من أهدافه.
ارتفاع كبير في أسعار السلع
وتوضح الخبيرة أن هذا التباين في تعامل الحكومات مع قضية التعاون بسبب أن هناك دولا تعمل على حماية السواد الأعظم من الشعب، وبالتالي لا خلاف لها مع الحركة التعاونية التي احتضنتها وقدمت لها الدعم، وهذه الدول تعتبر النشاط التعاوني نشاطا مساعدا ومكملا ومتماشيا مع الخطة الاقتصادية والسياسية للدولة بل هو جزء لا يتجزأ من تلك الخطة. وتستدرك بقولها لكن هناك دول يستولى فيها على وسائل الإنتاج من قبل طبقة من الأفراد ويتحكمون في دفة الحكم وهذه الطبقة لا تتماشى مصالحها مع مصالح السواد الأعظم من الشعب، لأنها تسيطر على الإنتاج وتحرم المنتجين الحقيقيين، فهي التي تمتلك وسائل الإنتاج وتضع القوانين والنظم وتحدد علاقات الإنتاج بصورة كفيلة بأن تضمن لها الاستيلاء على مجهودات المنتجين الحقيقيين . ولما كانت الجمعيات التعاونية تأتي لتلغي ذلك الاستغلال، فمما لاشك فيه أنها لن تجد ترحيبا في مثل هذه الدول للتعارض الواضح في المصالح والأهداف. ومن جانبه قال عبدالمجيد محمد أحمد، مدير قطاع الاقتصاد بوزارة الصناعة والتجارة بولاية الخرطوم ومسجل التعاون المكلف، إن "النظام البائد بقصد منه كان متوجها لتجريف العمل التعاوني بالكامل في الدولة، فمنذ بداية العهد البائد إلى سقوطه كان النظام التعاوني مستهدفا ولم يؤد دوره الريادي في الاقتصاد الكلي والمحلي والآن الدولة بتوجهها في دعم المواطن وتوجيه الطاقات الشبابية نحو الإنتاج سعت لإحياء القطاعات الحيوية التي يمكن أن يجتمع حولها الناس في جماعات اقتصادية تستطيع أن تكون نواة لشكل الكيانات الاقتصادية المتكاملة". وتابع "التعاون أحد القطاعات التي تتوجه الدولة الآن لإحيائها بغرض التشبيك بين المنتجين والمستهلكين وتجميع طاقات الشباب للعمل الإنتاجي". وأشار إلى أنه "عندما نجد أن الدولة بكامل طاقاتها وإمكانياتها متوجهة لإحياء التعاون وخلق فرص عمل للشباب عبر تعاونيات زراعية إنتاجية وحرفية تتوسع رغبتهم في عمل جمعياتهم التعاونية، كما أن الجمعيات التعاونية متعددة الأنواع، فهناك استهلاكية وإنتاجية زراعية وتعاونية للحرفيين وتعاونية ائتمان". وشدد على أن "إدارة التعاون قامت بتوزيع فرق على المحليات والأحياء للتوعية بالعمل التعاوني وإجراءات التسجيل والجمعيات العمومية حتى عمليات المراجعة للعمليات التعاونية". وأضاف "الآن هناك إقبال كبير جدا على تسجيل الجمعيات التعاونية، فقد فتحنا منافذ في كل المحليات بالخرطوم وتم تعيين موظف في كل محلية من التعاون مهمته الأساسية جمع الملفات لتأسيس جمعية تعاونية لتجنّب المواطن عبء الحركة من مناطق بعيدة، وقد اكتملت إجراءات عدد من الجمعيات الاستهلاكية وبدأت في تقديم خدماتها للأعضاء". وفي أحد أحياء ضاحية الحاج يوسف بولاية الخرطوم، قالت عائشة أحمد ل"سوداناو" بعد أن استلمت احتياجاتها من التعاونية "شيء لا يصدق، كل سلعة بحوالي نصف سعرها في السوق، فمثلا جوال السكر زنة 10 كيلو يباع ب800 جنيه بينما في دكاكين الحي ب1500 لتر الزيت سعة 4 وربع لتر ب920 مقابل 1600 في الدكان، كيلو الأرز 135 وفي الدكان 300، كيلو العدس 210 وفي الدكان 360 وهكذا في بقية السلع بل إن رطل الشاي بلغ في السوق 600 جنيه مما دفع بعض الأسر لعدم تناول الشاي والآن يباع في التعاونية ب225 فقط". وتضيف عائشة "مزية أخرى للتعاونية أنها وفرت كل المواد التي لا غنى للأسرة عنها مثل دقيق القمح والذرة خاصة مع أزمة الخبز المزمنة". والسبب في هذا الفارق الإيجابي الذي تحدثه التعاونيات على الحياة الاقتصادية يرجعه البروفيسور حسن بشير، أستاذ الاقتصاد ومدير جامعة البحر الأحمر، إلى ربط التعاونية بمشروع "سلعتي" الذي أطلقته الحكومة وهو شراكة بين وزارة التجارة والصناعة ووزارة المالية تعنى بتوفير السلع للمواطنين بتكاليف أقل منعا للمضاربات، والتعاونيات هي منفذ هذه الشراكة للتعامل مع المواطنين. ويعتبر هذا المشروع سوقا للمنتجين كون السلع تصل مباشرة من المنتج إلى المستهلك دون وسطاء ويشمل السلع الضرورية، وهو تجربة موجودة في كل العالم وتساعد في حل مشكلة غلاء المعيشة وبالتحديد في ما يتعلق بالسلع الاستهلاكية وتوفرها لشريحة معتبرة من الناس خاصة أصحاب الدخول المحدودة. أما حل المشكلة الاقتصادية برمتها فهو مسألة تعنى بالسياسات الاقتصادية الكلية بالنسبة إلى الدولة ودور الدولة في النشاط الاقتصادي بشكل عام. لكن هناك بعض العقبات التي تبطئ من وتيرة تكوين الجمعيات التعاونية. ويقول محمد مبارك، من إحدى اللجان المساعدة في تكوين الجمعيات بمنطقة البراري بالخرطوم، "إجراءات معقدة تواجه اللجان وتأخذ الكثير من وقتها ومشكلة الأسهم أنها حددت سابقا بقيمة معينة وحاليا أصبحت لا تناسب الوضع إلا برفع سعر السهم، الأمر الذي يتطلب أن يجاز من جمعية عمومية إضافة إلى أن أحد شروط قيام الجمعية هو المقر ولا اعتقد أن كل الأحياء لديها قدرة على هذا الشيء".