من أكثر المفاهيم حضوراً في وجدان المسلم، هي فتوى قتل "المرتد"، حيث تم اعتبارها مكون رئيس في البناء العقدي للمسلم، ذلك لكي يسهل ترسيخها (reinforced) بصورة مستمرة من على منابر الدعوة، حتى أصبحت ركناً ركيناً في البناء الثقافي الإسلامي (الدين البديل) والذي يعكس بجلاء حالة "التنافر المعرفي" الحاد التي يعيشها المسلم، فمن ناحية يجد في القرءان وهو السلطة المركزية العليا حرية مطلقة في الاعتقاد (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، فتجده ينادي بها في الغرب ليتمكن من تبديل دين غيره، وهو يردد في قلبه نقيضها دون أن يشعر بأي ضيق في نفسه "من بدل دينه فاقتلوه". فتاوى قتل المرتد تمددت وانتشرت وتفرعت حتى طالت "الرجل البالغ إذا امتنع عن صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل"، وما أكثر تاركي الصلاة التي يعنيها القرءان (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)، فما أعظم مفهوم الصلاة في الإسلام لو كانوا يعلمون، هي اطعام المسكين ومساعدة الناس، والامتناع عنها هو مراءاة الناس، والادعاء بإقامتها لنيل ود "السلطان الاجتماعي". هذا التنافر المعرفي الحاد هو أحد أسباب تخلف الدول الإسلامية التي تنتهج "ملة السلفيين"، والسلفية هنا "بنية عقل" وليس مذهب، وبالتالي لا تختص بطائفة "إسلامية" دون غيرها ولكنها تطال معظم الطوائف الإسلامية، فلا تكاد تجد مسلم اليوم إلا ويقول "بقتل المرتد" أو في أحسن الأحوال يخرج من المأزق بقوله "العلماء اختلفوا"، فهنالك أقوال عديدة، مع كل أسف، تجعل من اتباع السلف هو أساس الدين، وبالتالي اتخاذ كافة فتاواهم الشاذة ديناً، في مصادمة صريحة لملة خليل الرحمن إبراهيم والتي كانت في جوهرها ثورة على السلف، فلو كان إبراهيم عليه السلام قد اتبع "السلف" كما يريد السلفيون منا اليوم، لظل عاكفاً على الأصنام وساجداً للأوثان! لقد كان إبراهيم خليل الرحمن (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، وجعله الله للناس إماما (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ)، وجعل من ملته أي أسلوب تدينه ونظره في الكون ملة العقل والتفكر، ونموذج للناس في كيفية معرفة الحق من الباطل، بل جعل العدول عنها ضربٌ من السفه (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ). الخلاصة، من يفتي بتكفير مسلم من على منبر، فإنه ضمناً يبيح قتل ذلك المسلم، ولن تنفعه حينها حجة عدم التصريح، فقد قُتل النقراشي باشا من قبل بتلميحٍ من على منبر "المنبر هنا سلطة معنوية"، وقُتل فرج فودة من على منبر، وطُعن نجيب محفوظ من على منبر! فهل يا ترى يجيز القانون رفع دعوى "التحريض على القتل" لكل صاحب "فتوى تكفير مسلم" من على منبر وهو في حالة هياج عاطفي معدٍ، يمكن أن يصيب صاحب "هوى" فينتفض لتنفيذ فتواه تقرباً لمولاه، وهل سيكون حينها في حل من تحريض، أم كيف يكون التكييف القانوني!