لا أكاد أفهم ما المقصود بالترتيبات الأمنية التي نصت عليها اتفاقية سلام جوبا، التي وقعتها الحكومة الانتقالية مع بعض الحركات المسلحة، ونصت على دمج قوات الحركات في الجيش السوداني والقوات النظامية الأخرى! وهذه ليست المرة الأولى، التي يرد فيها نص بهذا الشكل الفضفاض في الاتفاقيات التي درجت الحكومات السودانية على إبرامها مع الجهات التي حملت السلاح في وجه الدولة. ففي عام 1972 ورد ضمن بنود اتفاقية اديس أبابا، بين حكومة جعفر نميري ومتمردي الجنوب، نص على "دمج قوات المتمردين السابقين" في قوات الشعب المسلحة السودانية. وكذلك اتفاقية السلام الشامل، في نيفاشا، جاء ضمن بنودها دمج قوات جيش حركة تحرير السودان في الجيش. وهذا ما حدث في اتفاقية جوبا أيضاً فقد ورد فيها "دمج مقاتلي الحركات المسلحة في الجيش السوداني على 3 مراحل، تنتهي بانقضاء أجل الفترة الانتقالية". ولكن لم يترتب على الاتفاقيات السابقة دخول قوات إلى قلب الخرطوم! عموماً هذا نص ملزم لأطراف ذلك الاتفاق وهو بالتالي واجب التنفيذ، ولكن هل نصت الاتفاقية على دمج تلك القوات في الجيش السوداني أم نقلها إلى وسط العاصمة الخرطوم؟ بدون تنسيق أو ترتيب يضمن انضباط تلك القوات، وعدم خروجها عن نطاق السيطرة لأتفه الأسباب، مع العلم أن أفراد القوات المعنية قد دخلوا بعتادهم الحربي، وضربوا أطنابهم على مقربة من مناطق استراتيجية ما ينبغي أن يكون فيها وجود لأي تكوينات عسكرية غير تلك المكلفة بحماية المنشآت وحفظ الأمن داخل المناطق السكنية والحضرية؛ تفاديا لما قد يطرأ من نزاعات أو تحركات غير محسوبة، ربما تشعل الشرارة الأولى لفتنة كبرى لا تبقي ولا تذر. أتذكر عندما كنا طلاباً بكلية التربية، جامعة الخرطوم، التي تقع على شارع الوادي، المؤدي إلى الكلية الحربية في شمال أم درمان، وتحديداً في عام 1979، كان يدرسنا اللغة الفرنسية البروفسور كرستيان فاقوري، من كندا، وذات مرة كان قادماً نحو الكلية وكان يسير أمامه رتل من السيارات العسكرية، فتأخر عن موعد المحاضرة، وعند وصوله سألنا ما إذا كان انقلاب عسكري قد حدث في السودان، فأوضحنا له أن هنالك احتفال في الكلية الحربية وهؤلاء الجنود ذاهبون للمشاركة. استغرب الرجل وقال كيف تقيم قوات بهذا الحجم داخل المدن؟ وأنا أطرح نفس ذلك السؤال الآن على الجهات المسؤولة عن حفظ الأمن: كيف سمحتم لهذه القوات المدججة بكل أنواع الأسلحة الميدانية، الخفيفة والثقيلة، بأن تعسكر في وسط العاصمة؟ ألم يكن من الممكن وضعهم مؤقتاً في واحد من المعسكرات التي تتبع للجيش في المرخيات، غرب أم درمان، أو في المنطقة حول وادي سيدنا، أو في أي موقع آخر حتى ترتيب أوضاعهم النظامية ومن ثم دمجهم في القوات المسلحة؟ نحن نتمنى أن ييحقق السلام ويتكون جيش سوداني له قدرات عالية وعقيدة عسكرية تعبر عن تطلعات الوطن وتستلهم هويته وماضية العريق ومستقبله المشرق بعيداً عن التجاذبات الجهوية والإثنية والقبلية والأيديولوجية التي من شأنها أن تنسف استقرار البلاد وتجعلها في مهب الريح، هذا إذا لم تنشب حرب أهلية شاملة مثلما هو الحال في كثير من دول محيطنا الإقليمي، بسبب طموحات السياسيين وأصحاب الأجندة الخاصة التي غالباً ما تتفجر في شكل صراع دموي مدمر ومتطاول حول السلطة والثروة، ربما يقضي على ما تبقى من الوطن، ويخرج الحرائر وربات الخدور وكبار السن من النساء والرجال ولأطفال إلى معسكرات النزوح واللجوء في دول الجوار التي لن ترحب بهم لا في الشرق ولا في الغرب! لقد شاهدنا جنود بعض الحركات المسلحة وهم يرقصون طرباً معبرين عن فرحتهم بلقاء ذويهم في العاصمة الخرطوم، وهذا من حقهم كسودانيين، ولكن ما يلفت الانتباه هو ما جاء على لسان مقدم البرنامج الذي عبر عن توجه تشتم منه رائحة الجهوية، وكأنه بذلك إنما يريد أن يقول ها نحن قد دخلنا الخرطوم " والدخلنا غير الله اليجي يمرقنا"! على رسلك يا أخي فما هكذا يكون التعبير عن الفرحة، فقد دخلت الخرطوم في إطار اتفاق سياسي وعليك الالتزام ببنوده، فليس من الحكمة في هذه المرحلة الحرجة استثارة هواجس الآخرين بالعبارات غير المنضبطة، والحرب أولها كلام. من جانب الآخر، ونظراً للغموض الذي يكتنف مفهوم الترتيبات الأمنية بموجب اتفاقية سلام جوبا، يتوجس بعض المراقبين من انزلاق الوضع نحو الفوضى غير الخلاقة؛ خاصة وأن هنالك شكوك حول ترتيبات إقليمية ودولية يقصد منها التمكين لجهات بعينها بالتنسيق مع بعض العملاء في الداخل على حين غرة أو على غفلة من الحكومة وأجهزتها ذات الصلة، وحينئذ سوف نجني الندم والحسرة، إذ سينقلب السلام إلى موت زؤام ودمار وشتات؛ لأن كثيراً من هذه القوات لها خبرة طويلة في القتال سواء في داخل السودان أو خارجه! ولهذا السبب ما كان ينبغي أن يسمح لها بالدخول بكامل عتادها الحربي إلى قلب العاصمة، تحسباً لما قد يحدث، نسأل الله اللطف.