حكى لي أحد الأصدقاء عن حالة الإزدحام والتكالُب غير المسبوق التي تؤم مراكز منح شهادات تطعيم كورونا ، والتي وجدها بعد تجوُّلهِ في عُدة مراكز بالخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان تتراوح أعداد المُنتظرين فيها ما بين الثمانمائة والألف يومياً ، ثم أكَّد هذا الخبر وزير الصحة الإتحادي عبر مؤتمر صحفي أُقيم خصيصاً لأجل إيجاد حلول للمشكلة المتفاقمة يوماً بعد يوم ، والتي كان من بينها إفتتاح مراكز جديدة أهمها ثلاثة منافذ بجهاز المغتربين ، وإقرار مجانية الخدمة تلافياً لجشع السماسرة الذين جعلوا من الموضوع سوقاً رائجاً تُباع فيه هذه الشهادات بأسعار باهظة وخيالية خارج النظام ، هذا فضلاً عن إنتشار الشهادات المزوَّرة وبعضاً من مظاهر الفساد المتمثلة في الواسطة وتجاوز الإجراءات ، لكن ما يهمنا في الموضوع أن صديقي هذا وعبر مشاهدته الميدانية أكَّد لي أن أغلبية المتقدمين للحصول على هذه الشهادة هم من فئة الشباب الذين لم يتجاوزوا في أغلب الأحوال سن الثلاثين عاماً ، وجميعهم يطلبونها بغرض السفر إلى السعودية بالأخص أو إلى دول الخليج الأخرى ، وفي ذلك إشارة لا تقبل الشك أن الظروف المأساوية التي يمُر بها شبابنا مع أسرهُم قد تجاوزت حدود الصبر ، وإتجهت بفلذات أكبادنا للهروب من الوطن والتخلًص من أوجاعه بأيي ثمن ، حيث أن فكرة الإغتراب في دول الخليج لم تعُد كما كانت في سبعينيات القرن الماضي من حيث سِعة فرص العمل وما يمكن أن تحدثهُ للفرد من طفرات مُقدَّرة في وضعهِ المادي ، فالسعودية وغيرها من بلدان الخليج ولأسباب شتى مبدأها معاناة شعوبها من البطالة ، وأخرها أن ما يتوفّر فيها من فرص عمل لا ترقى أجورها ولا مُخصصاتها إلى ما يفي بتغيير حياة أولئك الشباب إلى ما يأملون ، اللهم إلا إذا كان المطلوب هو مُجرَّد (الحصول على حياة كريمة) لا تتجاوز حد الكفاف ، وأظن أن هذا هو المطلب إذا ما نظرنا إلى مانحنُ عليه الآن من صعوبات في مُجرَّد محاولة التشبُث بحياةٍ (عادية) في مواصفاتها. ليت أولئك الذين يجأرون بالشكوى في متون المنابر من إهدار موارد البلاد الزراعية والصناعية عبر تصديرها كمواد خام ، ويدعون إلى الإسراع في توفير المشاريع والمناشط الإستثمارية والصناعية التي تعمل على رفع القيَّم المُضافة لتلك الموارد ، أن يلتفتوا إلى شبابنا وينظروا إليهم (كمورد إستراتيجي) لا تقوم بدونهُ أية محاولات للتنمية أو التعمير أو النهضة الإقتصادية في السودان ، ليتهم يدعون إلى توجيه كافة الإمكانيات المُتاحة خصوصاً تلك التي تحصل عليها لجنة إزالة التمكين إقتلاعاً من أيدي وحناجر الفاسدين ، لمصلحة تشغيل الشباب ودعم مشاريعهم الصغيرة ، وذلك ليس من أجل تحقيق آمالهم وطموحاتهم كاملة ، ولكن فقط لإخراجهم من نفق اليأس المظلم وإحياء روح الأمل والتفاؤل في أنفسهم من جديد. مثلما أقرَّت الحكومة الإنتقالية رفع الدعم عن الوقود خشية أن يؤدي إنخفاض سعرهِ إلى تجارةٍ خارجية تدعم دول الجوار عبر التهريب ، ومثلما تخشى حكومتنا على منظومتها الإقتصادية من تجارة السوق الأسود في العملات الأجنبية ، ومثلما تخشى الحكومة من التبِعات الكارثية لما يترتَّب عليه عدم التوافق السياسي والفني والتخطيطي إذا إنفردت الجارة إثيوبيا بترتيب برنامج ملء سد النهضة ، وجب على حكومتنا الإنتقالية أن تخشى على (ثروتنا) الشبابية كمورد إستراتيجي لا تستقيم التنمية المُستدامة بدونهُ لا في الحاضر ولا المستقبل. صحيفة الديموقراطي