طلبتْ أماندا ماران بون مني بإلحاح بدا مباغتاً وغريباً أن أترك كل شيء في يدي، وأحضر إلى شقتها، "حالاً"، حبيبي وليم"! كان الوقت عصر يوم سبت.. عصر آخر غارق في ذلك المزاج السوداوي المطبق الذي لا يحتمل للوحدة. كان قد مضى نحو العام منذ أن رأيت أماندا ماران بون لأول مرة، في شقتي ذلك المساء، صحبة الأستاذ السابق عمر عبد الله الخزين وصديقتها المقرّبة اللعوب جيسيكا توماس لوكاس. طوال "هذا العام"، لم ترعوي أماندا قطُّ تمارس ألاعيبها تلك معي. كذلك، تظهر أماندا فجأة في حياتي. ما تلبث وقد عاد لي أمل بقائها معي تختفي بالطريقة المباغتة نفسها دون أن تترك أثراً ما قد يدل عليها في أي مكان هناك. أملتْ عليَّ عنوانها عبر الهاتف. "حالاً، حبيبي وليم". لم أكن أعلم أنّها تسكن قريباً "إلى هذه الدرجة" من شارع "تورنتو"، حيث تقع شقتي. ترى ما الذي يدور "الآن" بخلدها؟ قالت كما لو أنّها تظهر مدى شوقها إنها ترغب في مرافقتي "هذا المساء" إلى ملهى لاتيني في شارع بورتيج. بدت أجواء المكالمة أشبه برغم طابعها الخاطف بملابسات دعوة مها الخاتم سعيد تلك في القاهرة للوغد جمال جعفر للقائها في ذلك المطاعم اللبناني نواحي عمارات الميريلاند، بضاحية مصر الجديدة، حيث ذهبا تالياً تحت همس الشيطان إلى شقة جمال، في ميدان سانتا فاتيما، إن لم تخن الذاكرة، كي تمنحه "شرف فضّ بكارتها تحت دافع ثوريّ مضلل". ربما لهذا أخذ قلبي أثناء المكالمة يخفق بشدة. لكنّ أماندا ذُعِرَتْ في أعقاب المكالمة، لما رأتني أخيراً ماثلاً قبالة باب شقتها، بملابس صحفيّ محترم من نواحي القاهرة. "اللعنة. ما الذي يحدث أمامي الآن، يا وليم"؟ لم أفهم للحظة كيف يمكن لرؤيتها لي أن تتسبب لها في كل ذلك الأسى؟ لقد بدا حزنها راسخاً غير قابل للزوال وغامضاً. أما ذلك، الذي أحكم قبضته على خناقي، فعودة كابوس فقدانها ذاك مجدداً للظهور. قالت أخيراً بغيظ أنثى أرادت أن تقدم لصويحباتها فارس أحلامها في "أبهى صورة" إنها لا تعرف حقّاً كيف تتصرف "مع هذا"؟ إلا أن أساريرها أخذت تنبسط كذلك على غير توقع، كما لو أنها عثرت من بعد تفكير على علاجٍ لموقفٍ بدا حتى الثانية الأخيرة ميؤساً منه تماماً. قالت إن بحوزتها "هنا لحسن الحظّ وليم حبيبي" بعض ثياب شقيقها براندون، الذي يقضي "عقوبة السجن الآن"، ثم "لبراندون شقيقي هذا طول قامتك هذه، وليم حبيبي". تقالتْ ذلك بالطريقة العادية نفسها التي قدَّمتْ لي بها شقيقتها سمانتا لاحقاً كعاهر محترفة على إحدى نواصي شارع سيرجنت. واصلتْ حديثها: "هنا اختفى براندون من البوليس أسبوعاً". توارى سريعاً خوفي التاريخيّ ذاك من الشرطة. كنت أريد التأكد فقط مما أخذ ينعكس تالياً على صفحة وجهها المتقلّبة، حين قمت بتغيير موقعي داخل الغرفة، ورأيتها تخرج من دولاب خشبي بدلة رياضية بيضاء وتقدمها لي بكل ذلك الفرح الطفوليّ الآسر. سرعان ما قد عاودها الحزن ثانية مبدداً أدنى فرصة للتفكير هناك في الأسباب التي ألقت بشقيقها وراء القضبان؟ إنه الحذاء الكلاسيكي الأسود اللعين! باسطاً راحتيَّ على كتفيها، متوغلاً داخل عينيها الخضراوين كما بحَّار تائه على شواطيء غريبة، قلت لها "لحسن الحظّ لدي حذاء رياضي أبيض ماركة "نايك" أرتديه لحضور حفلات الشواء التي ظلّ يقيمها المنفيون، أحياناً، في الهواء الطلق". ابتسمتْ، بدأتْ تساعدني في نزع ثيابي، القميص.. البنطال. ما إن تغلبتُ على حذري، ولبست ثياب براندون، حتى قالت: "انتظر، وليم حبيبي". قلت هناك في نفسي: "إنها شديدة التقلب"!! ما لبثتْ أن أخرجتْ من الدولاب نفسه منديلاً أسود. طلبت مني كما لو أنها في سبيلها إلى وضع اللمسة النهائية على تمثال أنفقت في نحته جهداً عظيماً أن "أعقد هذا المنديل حول رأسك، هكذا، انتظر"! عقدته بنفسها ونهداها لم يهدآ من الذوبان عميقاً داخل صدري. ثم غادرتني، بخفة، إلى الصّالة، وأخذت تجري مكالمة هاتفية ما. كانت حتى رائحتها العالقة بالغرفة تُغري بأكلها المباغت، يم يم يم، لو لا قواعد هذه البلاد والذكرى الطازجة لسيرة السجن. ظللت في مكاني ذاك أسيرَ بدلة شقيقها الرياضيّة البيضاء تلك حائراً متشككاً متسائلاً إن كان ما بين ساقيها من شهد ونعيم ورواء يستحق حقاً "كل هذا العناء". لما عادتْ أخيراً إلى الغرفة، مدتْ يدها، حالاً، وقادتني هكذا مباشرة، لموتي أو لدهشتي والأمر سيّان، من بين ساقي، صوب مرآة الحمام، فعلت ذلك ببطء ولطف وعذوبة ومرح. كما لو أنها تقود بعيراً فقد عناده من رسن!! هناك، طالعني انعكاس صورتي "الحديثة". لقد بدوت في هيئة مغني الراب الشهير "توباك". كما لو أنني في سبيلي إلى خيانة شيء ما عزيز. شيء كما الهويّة. شيء ظلّ وثيقاً بي منذ لحظة الميلاد وتفتح وعيي. لقد بدا الأمر أشبه بعملية نزع جِلد تتم تحت تأثير مخدر ما. باختصار، كنت أواصل الموت منذ حضوري وثمة شخص آخر ظلّ يُولد دون مخاض منبعثاً من داخل الركام الذي كنته. خلال نهار اليوم الثالث من وصولنا إلى كندا، رآني ياسر كوكو، رفيق هجرتي من مصر، بينما أقف محتاراً تائهاً مستغرقاً بكلياتي في التفكير داخل أحد أقسام محلات جِنِت تايجر، قبالة أرفف خاصّة بكابات ونظارات شمسية. أوضحتُ لياسر بمثل ذلك النوع الراسخ من الخوف أنني أتردد في شراء نظارة وكاب خشيةً من تعليقات بعض المنفيين الساخرة. نصحني يأن أقتني فقط ما أرغب. أسداني ذلك ببساطة. وأخذ لدهشتي يتأمل مضرباً للتنس. لقد كان الشخص نفسه الذي قدم من بيئة رقيقة الحال لا تكاد تعرف من الرياضة سوى ذلك النوع الفطري من المصارعة الحرة، ما بين رجل ورجل. بدا ياسر متمتعاً دوماً بشيء أقرب إلى حرية فرد يعيش في مدينة فاضلة. يفعل ويقول فقط ما يشعر به حقيقة حيّة في أعماقه. لم يقرأ ياسر كوكو تيه مثلما قرأت أنا طوال حياة آلاف الكتب والمسودات والمراجع لكنه ظلّ حتى النهاية متصالحاً مع ذاته. فور دخولنا إلى الملهى، أخذت أماندا، وهي متعلّقة بذراعي، تقدمني إلى صويحباتها، صاحبة صاحبة، وقد أسعدني أن صديقتها اللصيقة جيسيكا لوكاس لم تكن موجودة هناك. لكأنَّهن يقسن بنظراتهن ما قد استقر أخيراً في يد أماندا من حظّ. كنت سخياً، كما الأعرابي يذبح ناقته للضيفان. أُلبي رغائبهن المتزايدة في الشرب، في توفير أسباب المرح الأخرى، وقد أسكرني ما بدا تحققاً داخل صحبة حميمة، وكان الإحساس بقرب ذلك الإبحار ما بين ساقي أماندا بعد طول ترقب معدني يدفعني إلى مزيد من الكرم والظرف ثملاً هكذا بخمر اللحظة غارقاً تماماً في عنفوانها، ولم أتورع للحظة في غمرة إحساسي ذاك بكل ذلك القدر من السعادة حتى عن الرقص، كيفما اتفق، على أنغام الفتى الصاعد وقتها "يوشر"، والرقص كذلك لا أجيد. كانت أمّي وشقيقاتي يُعيرنني في صغري، قائلات إن إيقاع الأغنية يمضي في اتجاه بينما حركة أطرافي تمضي "يا حامد" في اتجاه مغاير. حضورهن تلاشى بينما لا يزال الجرح يواصل نزفه. لم يكن بوسعي مطلقاً تخيل أن أماندا قد تتركني في نهاية تلك السهرة حائراً ملتاعاً أمام باب الملهى وطائر الإفلاس العتيق ينعق داخل جيبي.