قدمنا للمقال السابق بهذه الطرفة أن واحداً من البجا مات بالمستشفى ، غطاه أخوه بالثوب وجلس بجواره في انتظار عربة تنقله إلى المقابر ، وفي أثناء ذلك مر رجل آخر بالبجاوي وسأله : ازيك ياشيخ العرب، إن شاء الله الراجل ده ماعندو عوجة ؟؟ (مشيراً إلى الجنازة ) فرد عليه البجاوي لا ماعندو عوجة بس شوية ميت. ذهب أبوعلي بتلك الطرفة ليظهر صبر الإنسان البجاوي وعدم اهتمامه بالصعاب، يقول البجاوي يستعمل (شوية) و(شبه) في أحلك الظروف. يقول البروفسير علي شمو في تقديمه هذا الكتاب الذي نحن بصدده الآن هو عبارة عن مقالات ودراسات تناولت عدداً من القضايا الهامة ، التي تضيف إلى حصيلة القارئ المعرفة والدراية لقضايا الوطن وتاريخه، و تمكنه من الإحاطة بالمعلومات الدقيقة عن القبائل التي هي جزءاً هاماً من نسيج وطننا السودان عبر إسهاماتهم الملحوظة في المجالات المختلفة سياسية وثقافية واقتصادية، بالإضافة إلى تركيزه على بعض القيم البجاوية الرائعة التي تناول فيها تفضيل ( الاعتبار ) على المال في ثقافة البجا. شهادة في حق الترابي يقول أبوعلي من الطرائف حينما كنا معتقلين في سجن كسلا ، كنت أدردش من وقت لآخر مع مساعد سجون إبراهيم ، وهو شخصية ذكية تخصصت في التعامل مع السجناء السياسيين بلباقة ، فسألته عن أكثر معتقل مزعج ومناكف ضمته جدران سجن كسلا فذكر لي شخصية أمسك الآن عن ذكر اسمها وقلت له وماذا يفعل حتى يشكل ازعاجاً لسلطات السجن ؟ فقال كان المعتقل يشكو يومياً منذ شروق الشمس عن عدم وجود نظافة في العنبر ، وعن وسخ الملايات والباعوض ، ثم سألته عن أكثر شخصية هادئة مرت على العنبر ؟ فقال الشيخ الترابي قضى تسعة أشهر في سجن كسلا وطيلة هذه الفترة لم نسمع له شكوى ، وطيلة هذه الفترة لم يشكو من الملايات المتسخة ولا يشكو من قلة الطعام ، ويسودغرفته هدوء تام وإذا دخلت عليه تجده ، خاشعاً في صلاة أو قراءة كتاباً . وفي الشهر التاسع من اعتقاله مرض وتم نقله إلى الخرطوم ثم بعدها عين مساعداً لرئيس الجمهورية نميري . سجناء اليوم حكام الغد ومن الطرائف أيضاً حينما قام الرئيس الأسبق نميري على الإخوان المسلمين وزج بهم في السجون جئت إلى مكتب السيد سليمان فقيري نائب حاكم الإقليم الشرقي آنذاك ، فأخبرني بأن العميد هاشم الوقيع مدير سجون الإقليم الشرقي قد حضر إليه قبل لحظات وطلب منه أن يصدق له مبلغاً من المال لصيانة غرف المعتقلين وشراء بعض الأثاث حتى تستوعب تلك الأعداد . فقال لي فقيري على الرغم من الاختلافات السياسية إلا أن هولاء المعتقلين هم من أبناء كسلا ومن أُسر كريمة يستحقون أن نهئ لهم المكان المناسب فأشدت أنا بهذه الروح الطيبة ، ولم تمضي أيام معدودات حتى سحب بساط الحكم من تحت أقدام نميري وخرج المعتقلون من السجن ، ودخلنا نحن العنبر الذي قمنا بصيانته ، وكنت أداعب فقيري في السجن قائلاً : لولا أنك وافقت على صيانة السجن ، لكنت اليوم ترقد على البروش البالية وحينها أدركت معنى العبارة التي كان يرددها المساعد إبراهيم بأن سجين اليوم السياسي هو حاكم الغد . أبو الماحي تناول أبوعلي أكلاب سيرة المرحوم الأستاذ حسن الماحي تحت عنوان ( أبو الماحي الذي رحل عنا ) يقول مايميز حسن الماحي عن الآخرين الترفع عن الصغائر وعفة اللسان ، لعل ذلك ينبع من أنه بدأ حياته العملية ، قاضيا وتشرب من القضاء النزاهة والصدق ، ولما ولج عالم السياسة وجد نفسه بين قامات سامقات من أساطين السياسة في السودان ، علي عبد الرحمن ، مبارك زروق ، المحجوب و إسماعيل الأزهري ، وعلى يد السلف الصالح تعلًم أدب الخلاف وحب الوطن والتجرد والموقف الثابت ، فتح عيونه سياسياً على مبادئ الحرية والديمقراطية واحترام الرأي الآخر كما نجده قد بعد عن المعترك السياسي في الفترات التي حكمت فيها البلاد بالنظم الشمولية ، ولم تلهه الإغراءات والاستقطاب والعروض فنأى بنفسه عن المشاركة في نظامي ( مايو ) و( الإنقاذ ) وتفرغ للعمل الرياضي . الأدب العالي هو السر الكامن وراء حب الناس له حيث كرموه بانتخابه في الجمعية التأسيسية ثم اختاروه لقيادة العمل الرياضي رئيساً للإتحاد المحلي لكرة القدم بكسلا. عمدة كسلا ويتحدث عن عمدة مدينة كسلا فيقول كان واحداً من أميز أبناء كسلا وقامة سامقة استطاعت أن تترك بصماتها في قلوب أهل كسلا ، عملاً دؤباً وإصلاح ذات البين وتقوية الصلات والغوص في أعماق قضايا المجتمع في التعليم وفي الصحة وفي الرياضة ، كان كتلة من النشاط والحركة يصل الليل بالنهار وهو منهمك في حل المشاكل ، ورغم تزاحم القضايا وتشابكها فإن الابتسامة الدائمة لاتفارق وجهه الباش وضحكاته المجلجلة لكأنما يخفف بها وقع المشاكل على نفسه الصبورة ، ورث الراحل بابكر أحمد جعفر العمودية من والده وهي ( رتبة ) لم تكن في هياكل الإدارة الأهلية ، أي أنه ليس عمدة لقبيلة بعينها بل كان عمدة مجتمع كسلا ، كان مكتب العمدة ( محكمة ) يتقاضى الناس فيها ومجلساً يتفاكرون فيه حول معضلات المجتمع ، ليس في شرع العمدة قضية لايمكن حلها بل كانت تحال إليه القضايا المعقدة من المحاكم يطبق عليها العرف ، وإذا صعب أمر حل القضية يمارس أعراف المنطقة بالتأجيل حتى يسهم الزمن في حلها . كانت تلك المحكمة التي يخرج المدعي والمدعي عليه راضياً بقرارها ، ومعرفتة بتركيبة مجتمع كسلا وخبرته الطويلة والمتوارثة هي السر الكامن وراء محبة الناس له. [email protected]