أعاد بنبرة كلها تمزق ، كلها غصة "لم يعد هناك من وطن . أوَ ليس كذلك؟" ثم أردف بنبرة مرة "يوم غزانا محمد علي باشا لم يرَ فينا إلا أرضا للعبيد ، أرضا للذهب"، سكت ثم تنهد "آه"، ثم سعل سعالا طويلا ثم سكت . قدرت أنه يشعل سيجارة سيلكت جديدة ؛ لا يتحمل أن تفارق السيجارة أصابعه أو شفتيه ! قليل من يدخن بمثل هذه الشراهة . لكن لماذا ماركة سيلكت ! السودانيون يدخنون البنسون آند هدجز ! قطع حبل تفكيرى صدى صوته الضخم وهو يعود فيقول بتؤدة ملؤها الأسى "معركة كورتي لم تكن بيين السودانين وبين جيش محمد علي …"، سكت لبرهة متوترة ثم أردف "لقد قاتل الشايقية كشايقية وليس كسودانيين . كذلكم كان شأن الجعليين ليلة الحريق العظيم . كذلكم كان شأن العبدلاب ، شأن المقدوم مسلم في كردفان وشأن أبي لكيلك في دارفور . أما سنار فقد أسلمت مفتاحها للغازي دون قتال …". "لكن سنار كانت …". قاطعني وقد تحولت نبرة صوته إلى شظية من زجاج أزرق "كانت مشروع أمة غير أنها لم تقوَ … لم تستطع. صاحبنا محمد عبد الحي حاول في قصيدته أن يجعل منها…". "ضمير الأمة. وأظنه أفلح". "لا. لا. العودة إلى سنار حلم قصيدة عظيمة ليس أكثر . عظيمة عظمة الهزيمة الأبدية". "إنها لقصيدة الانصهار . بل هي حلم أمة". "هل لاحظت أن عبد الحي أشار إلى الشاعر الأيرلندي دبليو بي ييتس؟ لعلك لم تنتبه". "بلى. في بنات البحر ضاجعن إله البحر في الرغو إل آخره مما يغني الشعراء". "ييتس حاول ، مع آخرين ، التعبير عن أيرلندا . لكن هل الأيرلنديون أمة واحدة؟". "…". "لا أظن . مؤكد أن البروتستنتينية والكالثلوليكية أقوى عندهم من الحس القومي . نحن كذلك ، الإحساس بالطائفة ، بالمذهب الديني عندنا أقوى من الحس القومي . ثم زد ما هو أسوأ الإحساس بالقبيلة ، الإثنية"، وضحك ضحك مرة وهو يردف "وما يسمونه اليوم بالهامش . ها ! لم أتبين خطورة هذا الهامش إلا عندما عدت من لندن مؤخرا ! الغريب في الأمر هو أن هذا الهامش المسلح يعيش مع قادته في الخرطوم وفي أمدرمان وفي بحري ! كيف يفسرون ذلك؟ كيف يبررونه؟". "…". ساد الصمت. [email protected]