منذ وقت ليس بالقصير، كانت ومازالت أسعار العقارات في الخرطوم من بين مصاف المدن العشر الأغلى في العالم لأسباب كتب عنها البعض في السابق. فعلى سبيل المثال، ذكر أحمد الزبير في مقال نشر في (سودان تريبيون) في عام 2009 "أن متوسط سعر قطعة الأرض في وسط الخرطوم 400 إلى 1000 متر مربع، ما بين نصف مليون إلى اثنين مليون دولار"، رجاء عزيزي القارئ ليس هنالك أي خطأ في نوع العملة، فهي بالفعل دولار أمريكي. لا توجد غرابة في هذا السعر في عام 2009، ففي تلك الفترة كانت البلاد تمر بأكثر فترات ما يعرف بال Boom أي الازدهار الاقتصادي والنفخة في سوق العقار، وليس لذلك علاقة بأمر يخص العقار أو موقع الخرطوم في خريطة العالم. الأسباب الموضوعية التي ظلت تلعب عاملاً في ارتفاع أسعار العقارات في الخرطوم (ومن ثم بقية المدن) ذات العلاقة بتشوهات الاقتصاد الكلي، ولها أيضاً بعد ثقافي يتمثل في قناعة السودانيين بأن أي فرد لابد أن يمتلك عقاراً في مرحلة ما من مراحل حياته، وأنه من العيب أن يموت الفرد السوداني في بيت ليس مملوكاً له. من ناحية اقتصادية مبسطة، أسعار العقارات في الخرطوم تعكس العلاقة بين العرض والطلب، وطالما أن هنالك طلباً مستمراً على العقارات يفوق مستوى العرض، فالطبيعي أن تستمر أسعار العقارات في الارتفاع إلى درجة تنافس فيها أسعار العقارات في الخرطوم مدن كسان فراسيسكو ونيويورك ولندن وطوكيو وباريس ودبي. من حيث منطق علاقة الأسعار بالخدمات، فإن الجملة التي يكررها على الدوام سماسرة العقارات في كل مدن العالم، أن المؤجر أو المشتري يجب أن يركز في الموقع وعادة ما يرددون Location, location & location أي الموقع ثم الموقع ثم الموقع، معنى ذلك أن هنالك علاقة بين السعر والموقع، والمقصود هنا أن الموقع يقدم خدمات من شاكلة مستوى المدارس والقرب من خدمات استراتيجية مثل المتاحف والمنتزهات والحدائق العامة والقرب من المياه. الشروط التي تتعلق بالموقع تدفع بازدياد الطلب على هذه الأماكن مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار فيها، وهذا الأمر لا ينطبق على أسعار العقارات في الخرطوم بشكل خاص والسودان بشكل عام، فبالإضافة إلى الموقع هنالك معادلة أخرى تحكم أسعار العقارات. تشوهات الاقتصاد الكلي لها تأثير مباشر على أسعار العقارات في السودان، من ناحية أن طبيعة أنشطة الاقتصاد السوداني ظلت في جوهرها ريعية حتى إبان الفترات التي كان فيها النشاط الزراعي يمثل أكثر من (80%) من حجم النشاط الاقتصادي. المعنى المباشر لفكرة الاقتصاد الريعي يمكن تعريفها في "الجهد في زيادة نصيب الفرد من الثروة من دون تكبد عناء خلق ثروة جديدة، والنشاط الريعي يقود إلى تقليل الكفاءة والفعالية الاقتصادية من خلال: سوء توظيف الموارد، تقليل إنتاج الثروات، تراجع الإيرادات الحكومية، ازدياد حدة التفاوت في الدخول، ومن ثم التدهور الاقتصادي الشامل". إلى يومنا هذا، النشاط الاقتصادي المفضل للكثير من الناس هو انتظار موسم الحصاد لشراء محاصيل بأسعار أرخص وتخزينها لبيعها بأسعار أعلى لاحقاً أو الاستثمار في العقارات، وميزة هذه الأنشطة أنها تحرم الاقتصاد من دخول رؤوس الأموال في دورة إنتاجية كاملة تؤدي إلى خلق ثروات ودفع ضرائب وإضافة قيمة، فلك أن تقارن ما بين الاستثمار في تشييد مصنع لإنتاج الزيوت وبين شراء عقار في قلب المدينة بنفس السعر، المصنع يمكن أن يكمل دورة رأس المال ويخلق ثروة جديدة، أما العقار فهو محض تخزين لرأس المال في أغلب الأحوال. الثقافة السودانية التي تقول بأن على كل كائن سوداني أن يعمل ليل نهار وأن يغترب في كل بقاع الأرض حتى ينتهي به الأمر إلى بناء أو شراء منزل، هي أيضاً عامل مهم في تحفيز استمرار الطلب على العقار. هنالك أيضاً عوامل أخرى تساهم في زيادة الطلب على العقار، من بينها عدم استقرار أسعار الصرف واستمرار تراجع الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية. وعليه لتفادي الخسائر المحتملة نتيجة لتراجع قيمة الجنيه، بالإضافة إلى الطبيعة الريعية للتفكير الاقتصادي السائد، فإن الناس عادة ما يفكرون في شراء العقار كلما توفرت لديهم فوائض ومدخرات، والأسباب هي: أولاً، الحفاظ على قيمة هذه الفوائض، لأن هنالك ثقة أن أسعار العقارات لا تتراجع. وثانيها الاستثمار في العقار يعتبر أقل خطورة إذا ما قورن بفتح مصنع أو تأسيس شركة. ببساطة إذا كانت للفرد مبالغ ضخمة بالعملة السودانية أمامه ثلاثة خيارات لتفادي خسارة قيمة مدخراته في حين استمر تراجع الجنيه أمام العملات الصعبة: شراء الذهب، شراء دولار أو عملات أخرى مستقرة، أو شراء عقار. الخيارات الأخرى التي تتطلب تدوير هذه الأموال في دور إنتاجية تحمل خطورة عالية في ظل اقتصاد مشوه وعدم استقرار سياسي. السبب الذي أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل غير مسبوق في أعقاب توقيع اتفاق السلام في 2005، وحتى ما قبل انفصال الجنوب، كان سببه تدفق فوائض النفط في أيدي العديد من الناس، وكذلك حصول السودان على العديد من المساعدات بما في ذلك أموال المنظمات التي أتت في تلك الفترة، وبرغم استقرار سعر الصرف النسبي في حينها إلا أن الطبيعة الريعية للنشاط الاقتصادي ساهمت في ارتفاع الطلب على العقار الذي جعل أسعار العقار في حينها تنافس لندن ونيويورك. ولكل هذه الأسباب يمكن أن القول إن أسعار العقارات في الخرطوم لم تكن تعكس طلباً حقيقياً، بل ظلت على الدوام تعكس حالة التشوه في الاقتصاد الكلي، والمعني بالطلب الحقيقي هو علاقة السعر بالموقع والخدمات إذا ما قورن ببقية أنحاء العالم، وبرغم ذلك إلا أن هذه الأيام ولأول مرة ربما في الأربعين عاماً الماضية، ظلت أسعار العقار في تراجع مستمر نتيجة لتزايد العرض وانخفاض الطلب. من ناحية اقتصادية، يمكن إقامة الحجة أن الأسعار الحالية ربما في طريقها لتعكس الأسعار الحقيقية لقيمة العقار في الخرطوم مقارنة ببقية العالم، ولكن لهذا الأمر تبعات كارثية أخرى. في مقال سابق لي، تحدثت عن هروب الطبقة الوسطى المدينية التي ظلت تعرض بيوتها للبيع والسفر للعيش في القاهرة وتركيا والخليج، وذلك لحالة التدهور الاقتصادي وتردي الخدمات والسيولة الأمنية وعدم الاستقرار السياسي وشبح الحرب الأهلية، وبالتأكيد استمرار هذا الهروب سيزيد من العرض، وهي نفس الأسباب التي ستقلل من الطلب مما يعني استمرار تراجع أسعار العقارات في الخرطوم. خلاصة القول إن ما يحدث في السياسة من غياب لأي أفق سياسي يمكن أن يخرج البلاد من حالة عدم القابلية للحكم سيلقي بظلاله على الاقتصاد، وربما ستكون هذه أكبر كارثة وآخر مسمار في نعش الاقتصاد السوداني، وستكون بالتأكيد خسارة الناس لأعظم مدخراتهم التي جنوها عبر سنين من الكد، فهل هنالك عاقل في هذه المدينة؟! الديمقراطي