أولا : إحساسي بأن هذه القفزة البرهانية في الظلام خلفها سر غامض . والقفزة المقصودة هي سفره الى لندن وحضوره جنازة الملكة اليزابيث الراحلة ، ثم عبور الأطلسي الى نيويورك والمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة . وكما يقول المطرب الرائع أبوبكر سالم في أغنيته "سر حبي فيك غامض". الان الانقلابي عبدالفتاح البرهان يسير في وجهة غامضة تسيره قوى غامضة ، ولغاية غامضة بس مش كتير . لكني أحسها أيادي اسرائيلية تواصل اللعب بعسكر السودان. من يتتبع مايجري في الخرطوم مؤخرا يلاحظ كلام غامض مرسل من البرهان حول تسليم السلطة للقوى المدنية ، ثم تعليقات قائد الدعم السريع تشي بشئ من الخلاف بينه ووالبرهان وفي الواقع هو دور مرسوم للإثنين معا . لتفسير المشهد الغامض فإن لاشئ يترك للصدفة بالنسبة للدول الكبرى . حكى لي صديق دبلوماسي سوداني كيف تم استقباله كسفير في لندن قبل سنوات . يتم قراءة ملفه كاملا ومعرفة مزاجه وكل مايتعلق به مايحب ومايكره باختصار كل شئ . وحقيقة هذه عادة متبعة في كل الدول التي لديها بروتوكول محترم لايترك شاردة أو واردة والا حشدها . حتى المسافة التي يسير فيها من سيارته الى لحظة وصوله لوزير الخارجية تكون محسوبة جيدا ومتابعة . ولذا فالبرهان ماكان له أن يفكر مجرد تفكير في السفر الى البلدين لندنونيويورك الا بعد ان أوعز له وقدمت له كافة الضمانات لكي يصل ويتسلم التعليمات من مصادرها . ولهذا فبريطانيا التي منعت الرئيس الأمريكي ترامب من المشاركة في تشييع الملكة هي نفسها التي ترسل دعوة للبرهان . ثم واشنطن تبعث له بسفيرها قبيل سفره وليس من مهام السفير الجديد سوى تسهيل الاجراءات وتسريعها وضمان سلاستها أما الباقي فله أهله ومصادره المباشرة . على ذلك فإن محطة البرهان تبدو لي شبيهة بالرحلة الأولى للنميري الى واشنطن عام 1978 . اصبح وقتها رئيسا دوريا لمنظمة الوحدة الأفريقية . ففتحت له أبواب واشنطن . وأذكر جيدا وقد دونت ذلك في ما كتبته من مذكرات نشرتها على صفحتي هنا قال لي فتح الرحمن البشير وكان وقتها رئيسا لاتحاد اصحاب العمل السوداني وكان مرافقا للنميري على رأس مجموعة رجال الأعمال . قال استقبلهم عند سلم الطائرة جورج بوش الأب شخصيا وكان وقتها يشغل منصبه كرئيس للمخابرات الأمريكية C.I.A قدم للجميع تعليماته بأن لا لقاءات صحفية أو أي ثرثرة وأحاديث سوى مع المسئولين ووفقا للجدول المرتب . رحلة ظلت غامضضة الى يومنا هذا في تفاصيلها . كل الرحلة كانت على نفقة الحكومة السودانية بما في ذلك رجال الحماية للوفد السوداني . باعتبارها زيارة غير رسمية بدعوة من الحكومة الأمريكية . الغريب رحلة أمريكا تلك سبقتها زيارة أخرى غير رسمية الى باريس ولم تكن باريس المقصودة وإنما بروكسل حيث مقر شركة لونرو التي باعت للسودان الترام مصنع سكر عسلاية القديم والذي اعيد طلاؤه بعد ان انتهى عمره الافتراضي في مدغشقر . وكان غرض الزيارة تعال يانميري شخصيا وسدد ماعلى السودان من ديون حتى نقوم بتلسمكم قيزانات جديدة للمصنع والتي احترقت في يوم افتتاحه في أكبر فضيحة من نوعها تم التستر عليها يومها . سافر نميري وسدد ديون السودان على الشركة في بروكسل وتجنب تقديمه الى المحكمة الأروبية للتخلف عن السداد . اليوم يتكرر نفس السيناريو زيارة بلا مقدمات وتداعيات سريعة سفير أمريكي في الخرطوم ثم ترتيبات لزيارة لندن ومنها الى أمريكا وهي ترتيبات لا تتفق والمعلن من موقف حكومتي البلدين تجاه السودان . فما الذي تغير حتى ترضى العاضمتين فجأة عن البهران بعد ان كانت الدولتين وغيرهما من الدول الأوروبية تمتنع عن مقابلة أي مسئولين رسميين سودانيين خاصة أيما عمر البشير المسجون . قالها الكاتب غابرييل غارثيا ماركيز حينما أبلغوه بفوزه بجائزة نوبل للاداب تساءل "ترى ما الذي فعلته حتى رضيت عني المخابرات الأمريكية ويمنحوني جايئزة نوبل ؟" . البرهان نتساءل نحن بالإنابة عنه ترى ما الذي فعله حتى رضوا عنه وفتحوا امامه بوابات الدولة الكبرى الولاياتالمتحدةالأمريكية ؟ ظني أن اسرائيل وراء الترتيبات وهذه الأريحية من قبل العاصمتين . سوف يحدد للبرهان من سيلتقي وما سوف يسمعه وما عليه أن ينفذه مما سوف يسمعه لا أكثر . في لندن سوف يلتقي يستمع وينفذ وفي واشنطن سوف يلتقي ويستمع وينفذ نيويورك ستكون الغطاء لتفاصيل الرحلة التي ستتم حتما على طريق مشوار الوثيقة الإبراهيمية الذي بدأ في عنتيبي . هنا المعضلة في تفسير ماسيجري لاحقا احتمالين أولهما أن البرهان سوف يمضي في تنفيذ ماظل يردده في إبهام شديد طوال الفترة الماضية . سيتم ترتيب الأوضاع بحيث يعود كداعية ديمقراطي وينفذ انفتاحا سياسيا . أمريكا ومعها بريطانيا تدركان أن الشعب يرفض أية فكرة لعودة الاسلاميين تحت أي ذريعة . وبالتالي سيكون على البرهان حلين أولهما جس نبض الشارع بطرح رؤية سياسية جديدة تقوم على اشراك كافة القوى السياسية في الحكم وهذه فكرة ليست بجديدة إذ طرحت في مؤتمر المانحين لدارفور بالدوحة قبل سنوات [إشراك الجميع في اجتماع شامل محضور من كل القوى السياسية والحركتين المتبقيتين (الحركة الشعبية – الحلو ، وحرة تحرير السودان – عبدالواحد النور)] ومن ثم الفكرة الأمريكية الغربية القديمة الجديدة أن هذا المؤتمر الجامع يحل مشاكل السودان مرة والى الأبد . هذه الأطروحة الرئيسية للبرهان . وإن فشلت ولم تجد القبول سيمضي البرهان الى حيلة أخرى وهي ما ستغضب عليه حلفاء اليوم الاسلاميين وحركات جوبا . وهنا سوف سيقع الصدام حتما لكنه سيجد تأييدا شعبيا في كل الأحوال . الحركات إن تحرك البرهان باسم الجيش كمؤسسة تخضع للتراتبية والأوامر سوف تسحق وببساطة ماتبقى من الحركات جماعة جبا وبعيدا من نفختهم الكذوب . وهنا أيضا سوف يظهر البرهان كبطل لدى قطاعات شعبية واسعة . بقي الاحتمال الأخير أن البرهان سوف يعد ويعمل في ماتبقى من حركة اسلامية مشتتة بعد موت الترابي وينفض يده منهم وهنا احتمالين أن يعمد الى القوة وهذا يعتمد على مدى التقديرات الاسرائيلية لقوتهم داخل القوات السودانية التي من المؤكد انها وبالقدر الذي دخلت فيه السوق التجاري فغنها بالضرورة قد خضعت للمقايضات بالبيع الشراء والدليل على ذلك صمت هذه القوات على الزيارات المعلنة والمتكررة للمسئولين الاسرائيليين الذين انحصرت كل زياراتهم للخرطوم في اتجاه واحد هو الجيش والأمن مما يوحي بأنهم يمتلكون زمام أمرهم من هذه القوات التي تسيرها حركة تجارية فيها الربح والخسارة وكذلك العامل السياسي والذي خضع بدوره للبيع والشراء . وفي كل الأحوال سفر البرهان هي رحلة محفوفة بالمخاطر لكن حتما ستكشف عن حقيقة الجهة التي رتبت له أمر الرحلة المريبة وما سوف تتمخض عنها من نتائج . وفي كل الأحوال لقد أدخل الرجل نفسه في عين اللجة الهائلة لننتظر لنرى النتائج التي سوف تتمخض عنها . وأغلب الظن قد تصلنا بعض أخبارها المصنوعة اسرائيليا وقد تكتب نهاية محزنة لرجل باع كل شئ وقبض الريح . [email protected]