المفارقة اللطيفة قبل ان نبدأ، هي ان الشيوعية كالحركات الاسلامية لا تعترف بالعلمانية كأساس للحكم، لأنها لا تعترف بالمواطنة كاساس للحقوق وانما الاساس هو الانتماء للايديولوجيا الشيوعية التي، عقلاً، لا يمكن ان تتحقق إلا إذا كان المجتمع كله شيوعي ! . ونفس القصة مع حزب البعث العربي القومي صاحب الرسالة الخالدة . (كل الاحزاب تحمل نفس الفكر مع اختلاف في اللون فقط وهذا سبب الفشل المتكرر) . الإسلام كمفهوم إلهي متجاوز لا يمكن ان يلتقي مع القومية كمشروع سياسي ايديولوجي!. هذا لا يعني ان الإسلام ليس أسلوب حياة وضمير أمة، بالعكس فوظيفة الدين هي خلق انسان قوي أمين صاحب همة ومواقف تُحرك السياسة والاقتصاد. وهنا يحدث الاشكال والاضطراب، وهنا يصيح ويصرخ الاتباع والمريدين البسطاء، وقود حروب لوردات الحرب، الذين لا يفقهون من الدين سوى عقيدة "الولاء والبراء والبيعة" وعبادة السادة والكُبراء، الذين يعشقون الموت ويكرهون الحياة، معظمهم ماتوا في الجنوب، ومن لم يمت فهو من عُشاق السلطة والمال والغنائم ! . الإسلام دعوة إنسانية عابرة للحدود الجغرافية والزمانية والايديولجية، فالإسلام يتخلل كل مناحي الحياة، كالماء والهواء من الحياة، لا تقوم الحياة إلا بهما ولكنهما ياخذان شكل الحيز الذي يوجدان فيه، وظيفة الدين أن يُهذب ويُطهِّر ويُزكي الانسان سواء كان سياسي او اقتصادي او نجار او كنَّاس أو طبيب أو غيره !. ولكنه لا يكون مشروع سياسي لحزب أو جماعة أو قومية. أي برنامج سياسي لأي حزب قومي وطني، لا بُد وحتماً أن يعترف بالمواطنة كاساس للحقوق، ولا بد أن يعترف بالديمقراطية كوسيلة لتبادل السلطة، فالمواطنة والديمقراطية لا يمكن ان يتحققا إلا في جو علماني يعترف بتبادل السلطة بين احزاب اليمين وأحزاب اليسار، بين المسلم الإسلامي والمسلم الحقيقي بدون صفة غير انه مسلم . التقاء الترابي وصدام حُسين رغم الاختلاف الايديولوجي يشير بكل وضوح الى إلتقاء الفكر، وليس المصالح كما يعتقد البعض ! فقد حارب الترابي العالم العربي والإسلامي بتضامنه مع صدام البعثي القومي اليساري. حزب البعث يقوم على القومية العربية ولا يعترف بالدين أصلاً "مؤسسي الحزب هما أنتوني سعادة وميشيل عفلق وكلاهما مسيحي"! رغم ما يقال عن استقلال البعث السوداني عن الأصل واستقلال اخوان السودان عن الأصل واستقلال الحزب الشيوعي عن الأصل الخ الخ.. لذلك من يفهم في السياسة يعلم جيداً أن أول من طبق العلمانية عملياً في السودان تحت شعار الدين هو الترابي "عليه رحمة الله"! بدون ان يشعر اعضاء الحركة الإسلامية بذلك، فمعظم هؤلاء الاعضاء قد انتموا إلى الحركة بدافع العاطفة الدينية الخالية تماماً من اي فكر سياسي، لذلك مات معظهم في الجنوب تحت شعار الجهاد الذي عاد واستنكره الترابي نفسه. والمفارقة العجيبة أنهم أول من حارب العلمانية "كمصطلح" في السودان، وساووا بينها وبين الكُفر، وهم يمارسونها فعلاً على الارض ! . هذا التناقض انتهى نهاية منطقية جداً وهي الانقلاب على الديمقراطية والمواطنة تحت شعار المشروع الإسلامي العالمي، الذي احتضن الحركات الإسلامية على مستوى العالم ثم انتهى كل شيء لان كل شيء قد قام على لا شيء..! . [email protected]