لا ادري من هو الذي أوحى لعموم العقل الجمعي الإنساني، وتحديداً السوداني بأن حمل السلاح في وجه الحكومة المركزية هو السبيل الأنجع لإزالة التهميش وتحقيق التنمية المستدامة والرفاهية للمجتمعات في عصرنا الحاضر؟ . نتسآئل في هذا الوقت العصيب من عمر السودان ونحن نعلم جيداً بأن الظرف السياسي الراهن يحفز كل قرية وكل فريق وكل بطن او فخذ في قبيلة لتشكيل حركة مسلحة . وعدم التعاطي الجدي مع حمل السلاح يوحي بأن هناك جهات تعطي الضوء الأخضر لكل مجموعة بالعمل في هذا الإتجاه . ولكن بكل تأكيد فإن تجربة قيام الحركات المتمردة في كل أطراف السودان تجربة فاشلة بامتياز . بالرغم من وجود ظروف موضوعية ومطالب مشروعة لكل سكان المناطق التي قامت فيها الحركات المسلحة . إن الشعور المتنامي والزائد عند الناس بأن حمل السلاح هو الطريق المناسب لاسترداد الحقوق ، لن يزيد الدولة المركزية الهشة التي فاق عمرها الستين عاماً ، ولا زالت في طور التكوين الا ضعفاً. ولن يزيد الشعب الا انقساماً. ولن يحقق لحملة السلاح الا مزيداً من البؤس والفقر والجهل والمرض. التهميش الذي ضرب كل أطراف السودان في البادية والحضر ، وعدم وجود تنمية متوازنة في كل أجزاء السودان ظهرت مؤشراته بشكل واضح حتى في قلب الخرطوم التي تتزيل ترتيب عواصم ومدن العالم ، إن لم تكن أسواها من حيث الخدمات الأساسية من نظافة وصرف صحي وشبكة مياه وطرق وصحة وتعليم. ولكن بالرغم من مرارة التهميش فإن الإستقرار يوفر هامش ولو ضئيل من المحافظة على مكتسبات المجتمعات المحلية من تعليم وصحة وتنمية مجتمعية طالما لم يكن هناك حروب وإقتتال وإشعال لنيران الفتنة. إن الحرب بكل تأكيد ستقضي على كل ما هو موجود من أخضر ويابس ، ولن تحقق الا دماء ونزوح وتشرد وفقر ومرض وتوقف تام لعجلة التعليم ومشروعات التنمية. أقول هذا ولا زلت أتذكر أنقاض القرى المحروقة ، والمباني المهدومة أيام عملي في منظمات العون الإنساني. هذه آثار لمدرسة … هذا ركام مركز صحي …. هذا حجر طاحونة …. هذه بقايا محراث زراعي …. هذه أشجار لفاكهة تبدو وكأنها برية ، ولكنها كانت حدائق غناء لمزارع أصبح متشرداً في المدن ، أو نازحاً في المعسكرات … هذه القطعان من الحمير البرية كانت لأهل قرية نازحة أما قتلوا او هربوا … رأيت كل هذه المشاهد المؤلمة كمناظر حية ، وأنا أتحرك بعربة منظمة انقاذ الطفولة الأميركية في قرى وأرياف وفيافي دارفور … ولا أريد أن أراها في أي منطقة أخرى من مناطق السودان الآمنة .. لا تغرنكم المكاسب الوهمية لقادة الحركات المسلحة الموقعة على إتفاقيات السلام التي لم تجلب أمناً ولا استقراراً…! فوراء هذه المكاسب الوهمية الشخصية الملايين من المشردين من أهلنا البسطاء في معسكرات النزوح واللجوء داخل وخارج السودان .. وراء هذه المكاسب السطحية من سيارات ووزارات الآف القتلي والجرحى والمعوقين والثكلي والأرامل واليتامى… وراءها ملايين القصص من الآلام والأحزان والدموع… كنت أظن ان عقلانية أهل المناطق المهمشة في الوسط والشمال ساهمت بقدر كبير في تجنيبهم بعض ويلات الحرب .. ولكن يبدو ان البعض منهم بدأ في تجريب التجارب الفاشلة المجربة في غيرهم .. وأقول لأهلي في بقية المناطق الآمنة من أجزاء السودان أن الذين يدعونكم الآن للإنضمام لصف القتال لن يخوضوه بأنفسهم… ولن يدفعوا ثمنه أرواحاً وممتلكات شخصية… وسيكونون أول المتكسبين من عوائد الحرب … كما تكسب غيرهم من أمراء الحرب السابقين لهم في حمل السلاح … لا تأخذكم العزة بالإثم وعصبية الإنتماء للجهة فتقولوا "لما لا نفعل كما فعلوا" إن السلاح الذي يخرج باسم الكفاح المسلح لإنتزاع الحقوق للمجتمعات المحلية ، سيصعب التحكم فيه مستقبلاً، وسيكون أداةً للفصل بين كل خلاف شخصي بين فردين او ثلاثة تخاصموا في ملكيتهم لشبر من الأرض ، او أولويتهم في الصعود لمركبة مواصلات عامة. إن السلاح الذي يخرج لن يعود لغمده. والذين اعتادوا على حمل السلاح لن يعودوا مجدداً لمزارعهم ومتاجرهم وقطعانهم من الماشية. وحتي القوات النظامية التي يتم تدريبها لحمل السلاح فأن التسليح يكون آخر مرحلة في التدريب بعد أن يتم التأكد من الإنضباط السلوكي والتربوي ، والإلتزام المهني بطريقة استخدامه ، وضوابط التعامل معه عند الحاجة. لعن الله الحرب وأسكت الله صوت البندقية للأبد .. وأدام الاستقرار والأمن في كل ربوع السودان.. اللهم قد بلغت وانت الأعلم بقصدي ونيتي