رحل محمد أحمد محمد أدريس المشهور بلقب كيسنجر نهار الاثنين الخامس من رمضان الجاري الموافق السابع والعشرين من مارس الماضي، بضاحية السامراب، وقد وري جثمانه بمقابر البنداري. أن الذين عرفوه يعتبرونه من غمار الناس في العاصمة الاتحادية، لديه أسرته وابنه وبناته الست، وقبل المعاش كان عاملاً فنياً في ابحاث كوكو البيطرية، ضمن فريق عمل الدواجن، بيد أنه وإلى أن توفاه الله تعالى كان ينظر إلى نفسه ضمن القادة من ذوي المهام الصعبة والخاصة أحياناً، واليوم أشهد بذلك وبوسع القراء أن يعرفوا عنه أكثر. كان يمثل جيلاً نهض من ركام التجربة الاستعمارية، وتخطى ظروف قاسية ومضطربة ليظل ممسكاً بتلابيب مواطنته، وبالفرص الضئيلة التي جعلت منه انساناً منتجاً ومفيداً للذات وللمجتمع العريض، بل وأن يصبح صاحب رسالة ومدرسة خاصة ميزته كقائد عمالي نقابي وناشط سياسي من أجل الحقوق والحريات على نطاق أوسع كثيراً من الإمكانيات الضئيلة التي بدأ بها تجربته في الحياة العامة، عندما وطات أقدامه سوح العمل بالخرطوم، أيام عزها المركزي غير المتنازع. ولد محمد، في أسرة إدارة اهلية، إذ كان والده ملك في منطقة كورما ريفي الفاشر، معروفة بحاكورة كيلا عيون، وبرغم امكانياته الشخصية ليكون ضمن قادة الادارة الأهلية المحليين مستقبلاً، إلا أنه أتجه مع زملاء آخرين قليلين لكسب المعرفة المتاحة يومئذ من المدرسة الصغرى الوحيدة في مساحة جغرافية واسعة، وتعلمه في الخلاوي والارتباط بحفظة القرآن الكريم. لقد شجعته بداياته الأولى أن يخرج من كورما لمزيد من المعرفه في مناطق أخرى بما في ذلك كبكابيه التي وجد فيها ترحيباً خاصة من أسرة الشرتاي أحمداي محمد. إمتد به الطموح بعد ذلك أن يأخذ طريقه نحو أمدرمان حيث المعهد العلمي، وقد أخذ من المعهد ما يثبت به معرفته الدينية ومعارفه الحياتية ويوسع المجال لديه للتعايش مع الآخرين ويفتح له أبواب العمل، ثم تنقل بين الأعمال إلى أن أستقر به المقام في وظيفة فنية في أبحاث حلة كوكو بالخرطوم بحري، وفي تلك الوظيفة طور نفسه إجتماعياً ومهنياً، وفيمابعد سياسياً ضمن الكثيرين الذين عاشوا ظروفه، خاصة عندما نجحت ثورة أكتوبر 1964 في اقتلاع الحكم العسكري للجنرال ابراهيم عبود. عندما ولد محمد في العام 1943، كانت الحرب العالمية على نهايات اشواطها الدامية، وقد بدأ التحول نحو الاستقرار الاجتماعي والبدء في المطالبات السياسية بالاستقلال لدول القارة الأفريقية، أما عندما وصل الخرطوم في العهد الوطني فقد تجاوزت البلاد المناداة بالاستقلال، وأخذت الفئات الاجتماعية الاقتصادية تطالب بما يجعلها قادرة على أداء أدوارها من أجل ترسيخ قيم الاستقلال والاكتفاء الذاتي. في ذلك المنحنى وجد محمد فرصته في العمل النقابي العمالي، والنشاط السياسي للأقاليم، وهو من أبناء ومواليد دارفور حيث تأسست بجيله الاجتماعي في الخرطوم جبهة نهضة دارفور 1965، وكان من ضمن الصفوف الامامية، وبذات استنارته الشخصية، برز كقائد نقابي يحسن التفاوض مع الادارات، ويحقق المكاسب لمجموعاته في الحركة النقابية مما جعل رفقاؤه يطلقون عليه فيمابعد لقب (كيسنجر)، تيمناً بنجاحات وزير الخارجية الامريكية الأسبق هنري كيسنجر في دبلوماسيت المعروفة (خطوة خطوة)، ذلك تأكيد على قدرته في معالجة القضايا الشائكة وامتصاص الغضب الطارئ. تلك الخبرات النقابية السياسية التي اكتسبها كيسنجر في جيله، ومع زملاء آخرين من مختلف أنحاء السودان جعلت منهم قادة شعبيين في أهم إتجاهات التطور الاجتماعي الاقتصادي للسودان، خاصة في محوري اللامركزية، وتحسين الأداء السياسي للقوى الحزبية والتجمعات السياسية وتطويرها، وتأسيس قدرات المجتمع المدني عندما برزت بوضوح مع بداية الألفية الجديدة. على الصعيد النظري، فإن القوى الاجتماعية على هامش الاقتصاد والتي لم تكن تمثل الا حالة تبعية انتخابية قبل ثورة اكتوبر، ومع شعارات الثورة أخذت تلك القوى التي لم ترتبط بأيدولوجيا حزبية، تجد فرص للتعبير السياسي، من خلال توسع الاجتهادات النقابية والمشاركة في إنتخاب قيادات ذات أرتباط بقضايا الاقاليم والريف العريض، وقد أحدثت بذلك كل الفرق بابتداع وسائل جديدة لقيادة الذات المحلية الاقليمية والنقابية بترشيح وتأييد قادة من خارج القوى الحزبية التقليدية والحديثة باعتبارها، قادة رأي مركزي في كل المجالات السياسية الاقتصادية الثقافية والدينية، بوسائل جميعها بحاجة إلى إعادة هيكلة لتتناسب مع حجم التنوع في كل المجالات للسودان. في السياق الذي سبق ذكره، فقد كان الراحل كيسنجر ورفقاء دربه من النقابيين والناشطين الاجتماعيين سياسياً، كانوا أكبر السند على ترشيح وانتخاب القادة والناطقين باسم أقليم دارفور، وكانوا هم من ساهموا في استخلاص قدرات عاملين وقادة في الخدمة المدنية للقياة السياسية لإقليم دارفور خاصة، فالراحل دريج الذي تم الاجماع عليه رئيساً لنهضة دارفور، كان هو نفسه أول حاكم لدارفور في اطار اقليمي، والحق فإن كيسنجر ورفاقه هم من أيدوا اللجنة التنفيذية لجبهة نهضة دارفور وطافوا لاجل نجاحها كل مدن وقرى الإقليم، وأخذوا شعارات النهضة رسالة قومية لبناء تحالفات مع بقية الأقاليم خاصة الحقوق الدستورية، التي تطورت نداءاتها عبر كل النظم الديمقراطية والشمولية، من الحكم الاقليمي 1980، إلى الحكم الاتحادي في العهد البائد، إلى إعلان الفيدرالية الديمقراطية بنجاح ثورة ديسمبر المجيدة. وهكذا وطوال السنوات التي عرفت فيها كيسنجر عن قرب وعملنا معاً، ماكان إلا مصمماً، متفاءلاً، مشاركاً في كل الأحداث التي صنعت مستقبل السودان في ميلاده الفيدرالي الديمقراطي الجديد. في ختام مراسيم العزاء جلسنا ثلة من أسرته وأصدقائه، نتفاكر حول ماساهم كيسنجر في انجازه، وما وجدنا من بين مشاركاته المميزة، أكبر من وقفته بايمان وشهامة لصنع مستقبل للبلاد بالتعلم والتعليم فقد سعى ضمن آخرين لتأسيس منظمة مجتمع مدني لخدمة التعليم وقد ساعدت العشرات والمئات من بنات وابناء دارفور بالذات للالتحاق بالتعليم العالي ، وقد وضع أسرته الصغيرة في درب التعليم، إذ قال لنا أبنه بهاء (كان والدنا يحثنا دائماً على التعليم والاستعداد لتحمل المسؤولية)، أما بناته ثلاثة خريجات جامعيات والبقية في المرحلة الثانوية، ومسك ختام كيسنجر أني سمعت قصص باهرة لتواصله الاجتماعي مع جيرانه في السامراب، في وقت كان الظن فيه أنه في راحته واجازته الأخيرة، الا رحمه الله تعالي ورفاقه، فقد ساهموا في بناء سودان لن ينهار.