توقفت الحافلة المدرسية أمام الباب ودلفت أمل ، تلك الطفلة الجميلة ذات التسعة سنوات ، إلى داخل المنزل ، وهي تحمل شهادة النجاح بكل فرح وسرور إذ حازت على المركز الأول في فصلها . أطلقت الأم زغرودة على خجل ، وهي تحتضن بنتها وتقول لها ألف مبروك يا أمل وعقبال الدكتوراة بإذن الله . لاحظت أمل شيئاً من الحزن في عيني إمها فسألتها : "يا أمي إنتي مالك زعلانة مني ؟". أشاحت الأم بوجهها حتى لا ترى الطفلة تلك الدموع التي انحدرت على خديها . طبعت الأم قبلة حنينة على خد بنتها وربتت على كتفها وهنأتها بالنجاح مرة أخرى . ثم أعدت الأم وجبة خفيفة لأمل مع كوب من العصير وجلست بجانبها حتى فرغت من الأكل ، ثم استأذنت لتأخذ قسطاً من الراحة. دخلت الأم في غرفتها وأغلقت الباب وبدأت تنتحب بصوت خافت حتى لا تلفت انتباه ابنتها لذلك الحزن العميق الذي هز كيانها . بعد أن هدأت من تلك الحالة المحزنة ، اتصلت على أهلها في الخرطوم لتعرف منهم تفاصيل ما حدث ، ولكن لم يكن هنالك رد من قبلهم . ظنت أن ذلك بسبب رداءة شبكة الهاتف ، فظلت تكرر الاتصال لفترة طويلة ، ولكن دون جدوى! انتابتها هواجس كثيرة وطفقت تفكر في أمور شتى ، وطافت بمخيلتها صور لأشخاص وأماكن في حيهم العامر حيث نشأت وترعرعت وسط أترابها وجيرانها وأقاربها الذين تكن لهم كل الود والاحترام . كيف يكون حال جدتي عائشة في هذه الظروف القاسية ، يا ترى هل استطاعوا إخراجها من المنزل قبل أن تحل بهم المصيبة أو أنها نجت بمساعدة أمي وإخوتي ؟ أين من نجى من أفراد العائلة الآن ، هل خرجوا من الخرطوم أم ذهبوا إلى منزل أخي أحمد في أمدرمان؟ وهل هذه الأخيرة آمنة أم أنها مثل الخرطوم قد سادت فيها الفوضى والدمار؟ حاولت التواصل مع ذويها بالواتساب ، ولكنها لم تتلق أي رد على رسائلها ! تملكتها المخاوف والهواجس المزعجة. فتحت التلفاز لتشاهد ما تبثه القنوات الفضائية من أخبار عن السودان ، فرأت صوراً زادت من شدة حزنها ، فثمة أعمدة من الدخان تتصاعد من عدة مواقع وصوت الرصاص ودوي الانفجارات ، التي تصم الآذان ، وصيحات الحرب تكاد تسمع من كل موقع ، ومراسلو القنوات يضعون خوذات على رؤوسهم ويلبسون سترات واقية من الرصاص ، فادركت أن حرباً ضروساً تدور راحاها في الوطن ! زاد نحيبها وبكت حتى كادت تصل درجة الإغماء فقد كانت تنوي السفر في العطلة الصيفية لقضاء وقت ممتع مع أسرتها في الخرطوم وتحضر زواج أخيها صلاح بعد أن أمضت في المهجر أكثر من ثلاث سنوات لم تعد خلالها إلى أرض الوطن ؛ نظراً لظروف جائحة كورونا وظروف السودان الداخلية! . ذلك اليوم عاد عماد من عمله مبكراً على غير العادة . كانت الكآبة تعلو محياه وقد أثقل الحزن كاهله . فتح الباب فتلقته أمل وهي تعلن نجاحها الباهر فقبلها وضمها إلى صدره، ولكنها شعرت بأنه حزين جداً . سألته في حيرة من أمرها : "يا بابا ، أنت وأمي تبكوا مالكم؟ أنا طلعت الأولى . لم يستطع الرد عليها فقد بلغ حزنه مداه. دخل الغرفة حيث كانت زوجته ، فعانقها وانخرط في موجة من البكاء الحزين. هدأت زوجته من لوعته وحزنه واستغفرت الله مرات عديدة وفعل هو ذات الشيء . جلسا معاً لفترة من الزمن دون أن يتحدث مع بعضمهما . بادرته هي بالقول قدر الله وما شاء الله فعل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نقول إلا ما يرضي الله. أخلد عماد للراحة وغط في غفوة ليست بالطويلة إذ من المحال أن ينام من أصيب بمثل ما حل بهم من فاجعة ؛ فقد سقطت شظايا من الرصاص على منزلهم في ذلك الحي في مدينة الخرطوم وفقد والده وخالة زوجته وطفلتها دعاء . دخلت أمل على والديها وجلست بالقرب من أبيها وقالت : يا بابا أين الهدية التي وعدتني بها لدعاء بنت خالتي؟ نحن خلصنا المدرسة وكما قلت إننا سوف نسافر الخرطوم في الصيف عشان أشوف صاحبتي دعاء وأديها الهدية. اجهشت أمها بالبكاء فحاول عماد أن يخفف عنها ، ولكنه لم يستطع . حاول أن يشرح لابنته ما حدث للأسرة ، ولكنها لم يستطع ، فسألته : يا بابا نحن مش حنمشي لناس دعاء ، فأجابها بلا . لم تفهم أمل حديث أبيها وكررت قولها لازم أودي الهدية لدعاء ! فقال لها خلاص بإذن الله نقابلهم في الجنة؟ كيف يعني في الجنة ، الأستاذة قالت لينا الناس يمشوا الجنة بعدما يموتوا ، يعني دعاء ماتت ؟ فهز الوالد رأسه مؤكداً أنها قتلت ، ولم تنبث شفتاه بكلمة! قالت أمل وهي تضحك حتى في الجنة سأعطيها الهدية ونلعب مع بعض! لكن يا أبوي هي لسع صغيرة ، وهم ليه قتلوها؟ .