الانقلابات على حكم الشعب والنظام الدستوري هي الامتحان الذي يحدد مكانة الجيش وقيمته ، الجيوش التي ترفض الانقلابات وتواجهها وتحمي الدستور وحكم الشعب هي التي تستحق ان يطلق عليها لقب قوات الشعب المسلحة ، اما الجيوش التي تدعم الانقلابات وتخون حكم الشعب والدستور فهي مجموعة مسلحة خائنة ومجرمة لا تستحق لقب جيش ولا ينبغي أن يناديها احد بلقب قوات الشعب المسلحة. المتابع المتفحص لمسيرة الجيش السوداني منذ الاستقلال ، سيجد انه مؤسسة مؤمنة بالانقلابات ، ادمنت خيانة شعبها وقتله ، وقد بدأت الخيانة مبكرا بانقلاب عبود في عام 1958م بعد سنتين فقط من الاستقلال ، فبعد ان سلم رئيس الوزراء المنتخب عبدالله خليل السلطة لعبود كقائد للجيش لتقديرات سياسية ، ثم علم خطلها عاد عبدالله خليل وطالب عبود بارجاع سلطة الشعب ، فما كان من عبود الا وأن اعتقله ونفاه الى سجون الجنوب ثم واصل في الحكم وكانه سيد السودان وسلطانه. استمرت الخيانة بانقلاب النميري على الحكم الديمقراطي في 1969م ، وبدل ان يواجه الجيش انقلاب بعض العسكر الخونة على الدستور وسلطة الشعب صمت وسكت ودعم الانقلاب ، ليؤكد انه جيشا يحمي العسكر وليس الشعب ، ثم عادت الخيانة مع انقلاب البشير على الحكم الديمقراطي في 1989م ، وبدل ان يقف الجيش مع حكم الشعب ويواجه الانقلابين استجابة لدعوة قائده العام الفريق فتحي احمد علي ، صمت الجيش ودعم انقلاب حثلة من صغار الضباط الخونة ، الذين قوضوا الدستور وسرقوا سلطة الشعب بليل بهيم. اخر الاخطاء واكثرها كارثية كانت هي انقلاب الجيش في 25 اكتوبر 2021م على حكومة الثورة ، والحقيقة ان هذا الانقلاب كان نتيجة موضوعية لتسلسل ارتكاب الأخطاء السياسية الكارثية لقيادة الجيش منذ لحظة خلع المخلوع ، حيث ظلت هذه القيادة تقدم الجيش كقاتل وليس شريك في الثورة كطرف خائن وليس شريك ثقة في ادارة البلاد ، كقوى عسكرية قاهرة للجماهير وليس حامية لها ، ظهر هذا في الاعتداء على المظاهرات وقتل المتظاهرين ، وفي فض الاعتصام وما تلاه ، ثم حتى بعد ان تجاوز السياسيون شلالات الدماء والخيانة ووقعوا مع الجيش اتفاقا سياسيا استمرت قيادة الجيش في خيانتها للثورة بأن وضعت العراقيل امام حكومة الثورة وحشدت ضدها الفلول وعناصر النظام البائد حتى انقلبت عليها في 25 اكتوبر ، وهو الانقلاب الذي فتح الباب لكارثة الحرب المدمرة الحالية. حتى بعد اندلاع الحرب لم يتوقف الجيش عن ارتكاب الخيانات والأخطاء المكلفة التي جعلت موقفه السياسي والعسكري في مهب الريح ، واولها سماحه للكيزان والفلول بقيادة المعركة الاعلامية للجيش ، وهؤلاء بدل ان يوجهوا هذه المعركة ضد الدعم السريع وجهوها ضد القوى المدنية والثورية ، فردت هذه القوى بحملة اعلامية مضادة كشفت زيف هذه الحملة وصرعت خطاب الحرب مبكرا. ثانيها سماح الجيش لكتائب الكيزان ان تتغلغل داخل الجيش لدرجة ان قائد كتائب البراء كان يبث فيديو مباشر في صبيحة اول يوم للحرب من نقطة عالية داخل القيادة العامة للجيش وهو شخص مدني وليس عسكري ، بينما كان المفتش العام للجيش لا يدري ماذا يجري حتى تم اسره ، وهذه الواقعة أثبتت ان الكيزان لم يطلقوا الحرب في المدينة الرياضية فقط بل كانوا يقودونها من داخل القيادة العامة للجيش وهذا ما يؤكد انها ليست القيادة العامة لجيش الشعب باي حال وانما هي القيادة العامة للكيزان. المحطات المؤلمة في عمر الشعوب تستوجب المراجعات المؤلمة ، ومحطة الحرب المؤلمة الحالية تستوجب ان يراجع الشعب فائدة وقيمة هذا الجيش الذي لم يحمي يوما حكم الشعب ، واقتطع لنفسه معظم ميزانية الشعب السنوية لسنوات طويلة ثم هاهو يفشل في الدفاع عن العاصمة الخرطوم وتسقط فرقه العسكرية واحدة تلو الاخرى في يد قوات حديثة العمر ، دربها هو وانشأها هو يوم ان اسقط حكم الشعب واستفرد بالبطش والقهر للشعب المسكين . في الماضي كان الجيش هو الجيش الوحيد في البلاد لذلك كان الاتجاه الطبيعي للشعب والقوى السياسية هو محاولة إصلاحه عسى ولعل ، وقد فشلت كل محاولات الإصلاح هذه في كبح جماح الجيش وخيانته للدستور وحكم الشعب وتعطشه للاستفراد بالحكم ، ولكن الواقع الراهن يظهر ان السودان أصبح فيه عدد ضخم من الجيوش ، وكلها جيوش نتجت كسبب مباشر لفساد هذا الجيش ، وهو ما يستوجب نسيان فكرة إصلاح الجيش ، وتقديم مقاربة جديدة ، مقاربة جراحية مؤلمة هي حل الجيش تماما وحل كل الجيوش الاخرى الموجودة في الساحة ، وتكوين جيش سوداني جديد (لنج) ذو عقلية حديثة مهنية تحمي حكم الشعب ولا تخونه ، وتدافع عن الدستور ولا تنقلب عليه. الشرط الاهم لنجاح هذه العملية الجراحية هو ان يترافق هذا الحل مع اطلاق حوار سوداني شامل يجمع كل الشعوب السودانية حول عقد اجتماعي جديد يوحد السودانيين على مباديء عليا لا يتخطاها مواطن ولا حزب ولا جيش ، يرعاها الجميع ويصونونها واهمها الحرية والعدالة وسيادة حكم القانون. هذا حل مؤلم وصادم نعم ، لكنه طريق مختصر يمكنه ان يعالج كل اخفاقات الجيش ، وكل اشكاليات الفرقة والخلاف بين الشعوب السودانية ، ويعيد توحيد البلاد تحت ظل جيش واحد وشعب واحد وحكم مدني ديمقراطي لا يظلم فيه مواطن ولا حاجة فيه لحمل السلاح من أجل المطالبة بالحقوق. [email protected]