خلال جولتي فيما أدعوه "جامعة اليوتيوب" وهي بحق جامعة غنية بالمواد المفيدة لمن يقصدها في هذا الجانب وهي لا تخلو بالطبع من مواد سالبة مثلها مثل أي وسيلة يمكن استخدامها سلبا او إيجابا .. وقديما تساءل الشاعر إليوت المتنازع عليه بين أمريكاوبريطانيا في قصيدته "الصخرة" 1934 تساءل قائلا وهو ينتقد حضارة الغرب المادية: أين المعرفة التي ضيعناها في المعلومات؟ Where is the knowledge we have lost in information? وكأنه يقصد – قبل عصرالانترنت – أهمية استخلاص المعرفة من الكم الهائل من المعلومات التي تعم وسائل الاتصال الحديثة.. وهذا ينطبق تماما على وسيلة اليوتيوب فهي سلاح ذو حدين .. كان لا بد من هذه التقدمة أما الموضوع الأساسي فإني هذا الصباح قمت بالجولة المعهودة التي أقوم بها دائما في الانترنت واليوتيوب .. وفي اليوتيوب عثرت على لقطة من حوار أجرته أوبرا ونفري وما أدراك من اوبرا ايقونة الميديا الامريكية فقد سألت ضيفتها السيدة الامريكية سؤالا واحدا وتركتها تحكي عن التجربة الحياتية او الموقف الذي كان له الأثر الكبير في حياتها .. كان سؤالا بسيطا قصيرا كالسهل الممتنع الذي عناه البحتري غير أنه فجر في ذهن الضيفة ذكرى موقف انساني حدث لها في جزيرة منعزلة من جزر أندونيسيا .. وأوبرا ونفري بذكائها المعهود وليس مثل المحاورين المستعرضين لمعلوماتهم ناسين أن برنامج الحوار يجب ان يتركز على ما يقوله الضيف وليس المقصود هنا المضيف ولكن هذه الحقيقة لا يعرفها إلا من حباه الخالق بحصافة ولياقة أمثال أوبرا ونفري .. كان سؤالها للضيفة ان تتحدث عن لحظة شعرت فيها بالامتنان الحقيقي .. وهكذا أشعل هذا السؤال في ذاكرتها موقفا انسانيا لا ينسي في البلد المسلم أندوديسيا .. وفيما يختص بالإعلاميين الذين لا يهمهم من أجهزة الاعلام إلا أنها وسيلة للظهور وتضخيم الذات يحضرني موقف قوي لا يصدر إلا من أمثال المفكر المصري العقاد المعروف بالعملاق لهيبته وصرامة منطقه .. كان العقاد ينتظر موعدا له للحديث في الإذاعة المصرية عندما اقتحم وحدته احد الإعلاميين إياهم وطفق يتكلم ويروى قصص سمجة ويضحك في حضرة العملاق والعقاد صامتا إلا أنه سأل العقاد: ما رأيك فيني فأجابه العقاد: رأيي فيك أنك مقبل على الحياة بدون مبرر! ومضت السيدة الامريكية إجابة على السؤال أنها كانت تعاني من تداعايات ذكريات أليمة لطلاقها في أمريكا .. لذلك هربت إلى أندونيسيا في محاولة نسيان ما حدث لها .. لجأت إلى جزيرة منعزلة وقررت أن تبتعد عن كل وسائل الحضارة بما في ذلك الاتصال بالناس او الكلام معهم .. وكان لها ما أرادت .. غير أن حالتها ساءت ومرضت واصيبت بالملاريا وهي بعيدة عن كل ما يمكن مساعدتها .. لكن في أحد الأيام وهي في قمة اليأس سمعت طرقا على باب الكوخ الذي تسكن فيه فإذا بسيدة اندونسية مسلمة لا تعرفها ربما لاحظت أنها لم تعد تمارس عادة المشي اليومي في أرجاء الجزيرة .. رأت هذه السيدة الحالة المزرية التي تعاني منها فذهبت وعادت بالطعام الطازج والماء وبعض الفاكهة .. وقالت أنها مازالت تذكر كيف أن تلك السيدة احتضنتها كطفلها ورعتها واعتنت بكل إحتياجاتها حتى شفيت وهي لا تعرفني ولا أعرفها وبالطبع ليست مدينة لي بأي شي أو سابق معرفة وحتى الآن لا أعرف اسمها ولكن أصبحت هذه السيدة الاندونيسية المسلمة بالنسبة لي الوجه الحقيقي للإسلام لذلك كلما ذكر الإسلام أو أي شيء له علاقة به تراءى لي وجهها "الوجه الحقيقي لدين الإسلام" .. كلام هذه المواطنة الأمريكية له الأهمية القصوى خاصة عندما تسود الميديا الصور النمطية المغلوطة التي يتم بثها كلما تأزم الموقف بين العالم الإسلامي ودول الغرب .. ويعرف المسلمون الامريكان ما صاحب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى هذه الأيام في فلسطين .. بالرغم من أني لا أجد الكلمات المناسبة التي تصف ما شعرت به إلا اني سأرفق مع هذا المقال رابط للفيديو الذي يحتوي على القصة على لسان بطلتها .. ولكن أرى أن المسؤولية في هذا الصدد لا تقع فقط على عاتق انسان الغرب وانما أيضا علينا نحن المسلمين الذين علينا "البلاغ" وعكس الصورة الإيجابية للإسلام سلوكا وحديثا .. وتحضرني هنا – والعهدة على الراوي – قصة عن شابين مسلمين كانا يدرسان في بريطانيا ويعملان نادلان في مطعم في لندن فقد لاحظت زميلتهم الإنجليزية انهما كلما جاءت بالقرب منهم تكلموا بالإنجليزية بدل العربية فأصابها الفضول لتسألهم عن هذا السلوك فقالا لها هذه تعاليم ديننا وترجما لها حديثا للرسول الكريم وبعضا من الآيات فتأثرت الشابة الإنجليزية بهذه الأخلاق العالية ونتج عن ذلك اعتناقها الدين الإسلامي .. أروي هذه القصة وبيننا اوليك الذين أطلقوا على أنفسهم "العلماء" ونصبوا انفسهم الناطق الرسمي الوحيد عن الدين الحنيف ولا يحق لغيرهم "غير المتخصص" أن يتحدث عن الدين .. وكل ما يميز هؤلاء العلماء عن غيرهم من المسلمين العاديين أنهم حفظوا عن ظهر قلب ما أفتى به القدماء القدامى فصاروا صدى له يرددونه باستمرار وجعلوه سقفا لا يجوز لأي من كان أن يتجاوزه .. لا شك ان السلف – لهم حسن الجزاء – عالج مشاكل عصره بما يناسب ذلك العصر وبالوسائل المتاحة لهم في ذلك العصر ولكن الآن في عصر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي تقدمت العلوم ووسائل البحث العلمي الأكاديمي بما يستجد من قضايا تحتاج لرؤية جديدة تعالج ما طرأ من مشاكل مجتمعية عصرية.. وعندما تتم ترجمة بعض اقوالهم وفتاواهم تخلق شيئا من التشويش على عقل المتلقي في دول الغرب .. ولا ننسى أن بلادنا عانت من المفاهيم الخاطئة طيلة ثلاثين عاما من عمر النظام البائد حين تم تقديم أسوا النماذج على أنها تمثل الدين الإسلامي الحنيف .. وانا بصدد الكتابة عن ذلك بما في ذلك – وهو الأهم – الترجمة الخاطئة لبعض آيات القران الكريم التي أحدثت وما زالت تحدث بلبلة في أذهان المتلقي في الغرب .. هكذا تبدو أهمية تجديد أسلوب الدعوة وعلى المسلم أن يتأسى بتلك المرأة الاندونيسية المسلمة البسيطة التي ما قامت به يُعتبر أفضل ترجمة على الواقع لآيات القران الكريم وتعاليمه السمحة أكثر تأثيرا من أولئك الذين يرددونها ليلا ونهارا من غير تدبر المعاني والمقاصد التي أمر بها القرآن الكريم .. "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (سورة محمد 24) د. الفاتح إبراهيم واشنطن مرفق رابط الفيديو: https://www.facebook.com/watch/?v=419510356472037&extid=NS-UNK-UNK-UNK-IOS_GK0T-GK1C&ref=sharing&mibextid=e1zS5d —