أحمد داوود الاستعمار كمعمل في السودان ، لم تكن الكولونيالية المعمل المنتج للدولة الحديثة فحسب . لقد كانت أيضا المؤسس ل"قوي دفاع السودان" الذي صار ما يعرف لاحقا بالقوات المسلحة. تاريخيا ، ارتكبت هذه القوات مجاذر بشعة ضد السودانين ، و تحولت في لحظة ما لمعمل فرخ أشكال متعددة من المليشيات العرقية و القبلية المشاركة في قمع و سحق المقاومة . في سياق النضال من أجل تفكيك علاقات التمركز و التهميش و تدمير شبكة الامتيازات و المصالح التي ترعاها نموذج الدولة الموروثة من الإستعمار عبر أدوات عنفها ، يبقي من المهم إعادة طرح سؤال الأولوية مرة أخرى. سؤال الأولوية او المعمل في مقابل المنتج لو استخدمنا منطق الجنجويد المتحايل الذي يؤسس مشروعيته عبر اصطناع سردية هدم المعمل كفعل تأسيسي للسودان الجديد يبقي السؤال مهما ؛ اذا حدث وان قرر السودانيون تفكيك الجيش بوصفه منتج استعماري ، هل ثمة ما يستدعي آنذاك القفز علي الواقع والبدء بتصفية و تدمير بريطانيا الاستعمارية "بوصفها معملا" _ كمدخل لتفكيك و بناء جيشي قومي جديد؟ بمعنى آخر ، هل عملية إعادة بناء الجيش تستدعي بالضرورة تصفية الاستعمار أولا او المرور عبرها ؟ هنا تتجلي الرومانسية السياسية في ابشع تمظهراتها. تحول في بنية التناقضات الداخلية في ديالكتيك المادة ، يمكن فهم حركة المجتمعات من خلال فهم تناقضاتها الداخلية. يؤشر ماو تسي تونغ لشكليين من التناقضات؛ رئيسية و ثانوية . بالنسبة لماو ترتكز حركة اي مجتمع علي التناقض الرئيسي. بالتالي يحدد هذا الشكل من التناقض الطبيعة الحركية لهذا المجتمع . لو اسقطنا هذه النتيجة علي السياق المحلي في إطار فهم الصراع وبلورة الموقف حياله، يبقي السؤال مهما ، أين يكمن التناقض الرئيسي ،و كيف يمكن تحديد هذا التناقض ؟ علي مر التاريخ ، كان التناقض الأساسي للصراع في السودان ، و بالتالي المحرك لاتجاهاته لم يكن ذلك الصراع الذي يحدث علي مستوي بنيته الفوقية بتعبير اليسار ، أي صراع ورثة الامتيازات فيما بينهم كما يقول د أبكر. إنما كان ذلك الصراع الذي يحدث بين ورثة الامتيازات وورثة المظالم ، أي صراع الهامش/مركز في تمظهراته السياسية و الثقافية و الاجتماعية. هذا الصراع هو ما كان_ حتي الخامس عشر من ابريل – يحدد اتجاهات حركة المجتمعات السودانية. لكن بعد الضعف الذي اصاب الدولة القديمة بضرب اقتصادها و شل امكاناتها و قدراتها العسكرية ؛ حدثت تحولات كبيرة ادت الي إنتاج ديناميات جديدة عبر توليد تناقضات جديدة تمتد جذورها الي التناقضات السابقة. يعبر هذا التحول عن نفسه بشكل واضح في بروز الدعم السريع كقوة مؤهلة لوراثة الفراغ الذي خلفته الدولة القديمة . ما الدعم السريع؟ في كتابات سابقة اشرنا الي أنه حاصل جمع المصالح و الارادات العشائرية الضيقة للنخب العربية في دارفور و رعاتهم من الامبريالية الإقليمية. هذه المصالح تتناقض جذريا مع مصالح عموم السودانيين المؤمنين بالوحدة و السيادة الوطنية بالتالي تصير المعادلة الجديدة كالآتي : مشروع الدعم السريع في مقابل مشروع الثورة السودانية . اي ان التناقض الرئيسي في الحالة السودانية سوف يكون بين السودانيين و مشروع الدعم المفروض من الخارج . هذا التناقض هو ما يحدد في النهاية اتجاهات حركة السودان . 1- انتصار الجنجويد سوف يقود إما : لتفتيت البلاد مع صعود الدعم السريع كمركز جديد لدولة دارفور التي تتخلق الآن من رحم السودان القديم ، أو خضوع الدولة السودانية بشكل كامل لارادة الجنجويد و رعاتهم الاقليميين. 2- انتصار مشروع الثورة ، وهو ما يؤسس عمليا لتصفية الجنجويد و إنهاء مظاهر التمليش مع ارساء دعائم سودان جديد عبر مخاطبة المظالم التاريخية و تفكيك الامتيازات الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية.