الدولة التي انتجت الحرب والمليشيات ليست دولة أصيلة تستحق الحماية والدفاع عنها. الدولة التي ظلت في حالة حرب منذ عام 1955، نتيجة سيطرة العسكر على السلطة، ليست دولة تستحق لقب دولة. الدولة التي ظلت الحرب فيها بأمر العسكر الحاكمين، تتسع قليلا قليلا وهم سادرين في غيهم حتى وصلت قلب العاصمة وصرة السودان/الجزيرة ، ليست دولة تستحق الثناء والتنظير والدفاع عنها. الدولة التي حكمها العسكر لمدة 46 سنة من الخمسين سنة الأخيرة قبل اندلاع ثورة ديسمبر، ليست دولة حتى نجتهد في التأطير لكونها دولة تستحق الحياة. الدولة التي انتجت الجنجويد ودافعت عنهم سنينا طويلة، لا تستحق ابدا المكافأة بالوقوف معها لمحاربة إنتاجها هذا. الدولة التي لم تستطع ان تعالج أزمة المليشيات نفسها، وتقاتل الان المليشيا بانتاج مليشيات جديدة، وتحويل الشعب بكامله الى حملة سلاح، ليست دولة تستحق لقب دولة. الدولة التي لم يدافع جيشها ولا مرة واحدة من أجل حكم الشعب، والمدنية والديمقراطية، وانما سكت وخان شرف الجندية ودستور الشعب وصمت على الانقلابات العسكرية، ليست دولة جديرة بالحياة. الدولة التي تغرق في حرب كان يجب معالجة اسبابها بغير الحرب، وكان يجب إغلاق بابها بالحوار، ليست دولة. الدولة التي تفضل الحرب على السلام، والموت على الحياة، والنزوح والتشرد على الاستقرار ليست دولة. الدولة التي تصر على الحرب التي تحمل في داخلها كل شرور تمزيق البلاد اثنيا وجغرافيا، وتغذي خطابات الكراهية، وتعيد انتاج المتطرفين الدينيين، ليست دولة. الدولة ليست مؤسسة جامدة تقف في مكان واحد هو الطغيان والقتل والموت والحروب، وتطالبنا بتأدية فروض الطاعة لها والدفاع عنها مجانا اذا تعرضت لمأزق. هذه الدولة استهلكت كل فرصها من أجل أن تتحول إلى دولة، واهدرتها، ولم يعد ثمة قيمة للدفاع عنها، واعادتها مرة اخرى لتمارس ذات الممارسات السابقة، وانتظار نتيجة جديدة مختلفة. الجنجويد ليسوا غرباء، هم نتاج مثالي لهذه الدولة الحالية، هم الدليل والمثال والنموذج على فشل هذه الدولة وموتها، وحتمية تغييرها بالكامل، ابتداءا بجيشها. الجيش الذي لم يكن في يوم من الايام جيش الشعب، جيش لم يقاتل الا السودانيين، ولم يحارب الا أبناء البلد. العلة ليست في السياسيين ولا القوى السياسية، فهي لم تجد الفرصة المناسبة لكي تطور دولة صحيحة ومعافاة، فكلما بدأت الطريق، قفز هذا الجيش بانقلاب. والجيش هو الذي ينقلب وليس غيره، والدليل ان بقية الجيش لا تعترض، ولا تقف ضد الانقلابات، عكس القوى السياسية التي تقف جميعها ضد الانقلاب، ما عدا الحزب المنقلب، والذي سرعان ما يقذف به خارج الحكم او يتحول إلى خادم تحت يدي العسكري الحاكم (النميري والبشير نموذجا). عليه، فان الحديث عن (دولة) و(جيش) ومؤسسات في السودان الحالي، هو كالحديث عن وجود قطة سوداء داخل غرفة مظلمة. ليس امام الشعب الان ليبني دولة سليمة معافاة، الا بالتوحد ضد هذه الحرب، وضد الدولة الميتة بجيشها وجنجويدها، وفرض ايقاف الحرب واقامة عقد اجتماعي جديد يوحد الشعب على مباديء عليا، ويكون جيش جديد ذو عقلية جديدة، تدافع عن حكم الشعب ولا تنقلب عليه. هل هذا صعب؟ نعم ولكنه أقصر وأسرع واكثر إمكانية من انتصار الدولة القديمة وانتظار خمسين سنة للثورة عليها، ثم إعادة ذات هذه الدورة الحالية بحرب جديدة ضد مليشيا جديدة انتجتها هذه الدولة خلال هذه الخمسين سنة.