مقال مقتطف من أوراق قديمة صاحب الجسد المهدود ، والعصب المجهود ، المعلم الذي تقلص ظله في هذه البلاد سيبقى مع ما ناله من خطوب ، واختلف عليه من صروف ، الشخصية المحورية التي يدور في فلكها كل طالب ، فالقيم النبيلة التي تحلق فوق السحائب الجون والتي يقطر من شمائلها ماء الكرم ، وينضح من سجاياها حسن الخلال لا تعروها آثار النسيان ، ولا تشوبها أعنّة الغفلة ، هذه الخصال التي كانت تتوافر في أساتذة الزمن الجميل جدير بنا أن نتحلى بها ونجعلها حداء لمسيرتنا ، والحق الأبلج الذي لا مرية فيها اننا مهما أمعنا في الادعاء ، وأفرطنا في الافتراء تبقى حقيقة مفادها أن البون شاسع بيننا وبين أولئك النفر من الأساتذة الأجلاء الذين رفعوا راية العلم عابلية خفاقة في ربوع وطننا الحبيب ، فكيف لمن يتبادلون فضول الكلام وغث الحديث ، أن يكون في مرتبة سواء مع أصحاب العقل الراجح ، والفكر القادح ، والخلق السامي الرفيع. وناظر المدرسة الذي يوري زناد الإلهام فتشتعل كوامن العبقرية في الأذهان الخصبة ، والقرائح الموهوبة ، رأيناه ونحن في معية الصبا يجاهد نزقنا بالحلم ، ويجالد طيشنا بالصبر ، ويصاول شرهنا للهو البريء بالضرب والوعيد ، أبصرنا تلك المؤسسة العريقة التي أهملتها الطائفية ، وأذلت ناصيتها الإنقاذ ، تدفع عنّا بيد ، وتناضل دوننا بسهم، عندما تسكب في ضمائرنا اليافعة مقادير وافرة من اليقين ، وتبتسم في وداعة وهي ترى ثائرتنا الغضّة قد تبدّت في ملامحنا البريئة جراء تأخر الكتب القشيبة فيهون علينا بعباراته المتزنة الرصينة حتى تمتلئ جوانحنا بالرضا ، ففي مدينة الدمازين كان ناظرنا في مدرسة الجمهورية الابتدائية المربي الفاضل والرياضي المطبوع "الطاهر بابو- رحمه الله" يحيل أيامنا التي ترتع فيها أشباح الهفوات إلى مدينة فاضلة نأمن فيها من كل سوء ، ونتحصن بها عن كل فتنة ، فلقد كان هو وأركان حربه الأستاذ الخلوق "عبد الوهاب الطيب" يعيان تماماً أننا نكابد ألم التناقض فيما نهفو إليه من لهو بريء ، وعبث جامح ، بحكم النشأة والتكوين ، وبين تلك القيود التي تفرضها ضروريات التعلم ، وما زال ثغري يومض بالابتسام كلما تذكرت صدر أيامي في تلك المدرسة الشامخة ، فقد كنت أُظهر امتعاضي وتمردي على ذلك العالم الجديد ، فقد أفضت من كل شيء بشاشته ، كنت كغيري من لداتي وأندادي أود أن أناغي الأطيار ، وأتسلق الأشجار ، وأخاطب الطبيعة ، أجلب البلية وأهش للعطية ، وأبغض السخاء ، لأجل ذلك عافت نفسي المدرسة لما فيها من شطط واعتساف ، واجتوى عقلي الدرس لما فيه من كد ، واجهاد ذهن ، ولولا نفر من الأساتذة العظماء نهضوا لإصلاح اعوجاجي ، وسعوا لتقويم خطل اعتقادي ، لاقتصرت دراستي على الفصول الأولى ، فلهم ولكل أساتذتي في المراحل التعليمية المختلفة أحني هامتي إكباراً لما قدموه لي ولغيري من حنو ورعاية وعلم. حاشية: ما يكابده هذا الشعب من حرب شعواء ، وغلاء مرهق ، وفقر مدقع يبرهن بجلاء أن الأممالمتحدة ، وجامعة الدول العربية ، لها قلب أقسى من الصّوان ، وأصلب من الفولاذ لأنها تركته وحيداً يواجه هوج الرياح ، وسرف المطر ، وضراوة الصقيع. [email protected]