مما لا يند عن ذهن ، أويغيب على خاطر، أن الفكر الإسلامي المعاصر من أشد العراقيل التي تتكتنف سموه وتفرده هو ضمور روح النقد الذي برهن الكتاب الخاتم على شرعيته ، ولعل أقوى ما ورد في القرآن الكريم مما يبرهن على شرعية النقد إنشاءً وقبولاً من الآخر هو تلقين الحق عزّ وجلّ لنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام كيفية الحوار مع المشركين ، وذلك في قوله :((وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) سبأ:23/24. كما من المؤشرات التي تبين أن مبدأ النقد موجود في صميم منهج الفكر الإسلامي ، نقد القرآن الكريم تقليد الآباء والأجداد بقوله:((…. بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)) البقرة:170. فبعد سائر ضروب الإخفاق التي شهدتها الأمة في شتى النواحي ، برزت حركات دينية من تحت سقف الصحوة الإسلامية ، منادية بأن الإسلام هو الحل ، فأقبلت عليها الجموع متلهفة متعطشة تنتظر ذلك الحل ، خاصة بعد فشل النظريات المقتبسة من الغرب ، من ماركسية عجفاء ، ورأسمالية موغلة في الأنانية ، وعلمانية متداعية ، ولكن المنهج التسلطي لتوحيد الرؤى والمواقف الذي سلكته تلك الحركات الدينية والذي ينافي قوله تعالى في كتابه المحكم السبك ، الدقيق العبارة ، المتناسق الأجزاء:((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) البقرة:111, أصاب تلك الجموع بالكدر واليأس ، فهي لم تقدم لهم عوناً ، ولم تمهد لهم أرضاً ، بل أحاطتهم بقدر وافر من المهانة والمذلة والاحتقار ، بلغ أثره في أيامنا هذا منتهاه ، فالسمت الغالب على الحكم في البلاد التي تحكمها تلك الحركات هو الاستبداد ، وقمع الرأي الآخر ، الأمر الذي جعل تلك البلاد الرازحة تحت نير تلك الحركات محط انشغال المنظمات الدولية المنافحة عن حقوق الإنسان ، لقد برهنت تلك الحركات بنهجها هذا أنها وحدها المخولة بأن تأمر وتنهي ، بعد أن ظنت واهمة أنها فقط ممثلة للنص الديني المعصوم ، لأجل ذلك نراها تعتمد مبدأ التوافق الطوعي الحر ، بل تلتمس وسائل القهر والإرغام لفرص سطوتها ، وتنزيل أطرها وسياساتها على الرعية. إن الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك ، والواقع الذي لا تسومه مبالغة ، أن الفكر الإسلامي الحركي ليس في كنهه فكراً موحداً بل هو نتاج لعدة مسارات فكرية ، فهناك الفكر الحركي للأخوان المسلمين ، الذي أبتدعه الإمام حسن البنا ، والفكر الثوري الذي استظل تحت أفيائه كل من أبو علي المودودي وسيد قطب ، كما هناك العديد من أوجه الفكر الحركي الإصلاحي بمختلف مشاربه وتوجهاته ، وفي السودان ذلك القطر الذي تركض فيه المصائب ، وتتسابق إليه النكبات , ظلت الحركات الإسلامية فيه تروج لشعار العودة إلي الدين الخالص ، ونجد أن حركة الأخوان المسلمين في أرض النيلين قد دخلت في صيال فكري محموم ضد الأنظمة التي كانت تشايع التوجه الماركسي بعد طرد المستعمر ، كما أنها كرست جل جهودها للالتفاف حول هذه الأنظمة ، لطمس معالمها ، وتفتيت كينونتها ، نجدها قد سعت سعياً دؤوباً للاستحواذ على صولجان الحكم حتى تسنى لها ذلك في نهاية ثمانيات القرن المنصرم ، لقد أثمرت جهود هذه الحركة التي اختلفت تسمياتها عبر الحقب التاريخية بتثبيت مبدأ شمول الإسلام، واحاطته بجوانب الحياة ، كما أنها زعزعت عادات موروثة ، وتقاليد مغروسة ، وفي عهد الإنقاذ النظام الذي ما زال قابضاً على أعنة الحكم نجد أن الحركة الإسلامية التي أتت به قد استفرغت طاقتها في بداية توجهها الرسالي الذي حادت عنه ، في الزود عن حياض الدين ، وذلك من خلال مسيرة جهادية تجاوبت معها جل الشعوب الإسلامية ، إلا أن الحركة الإسلامية في السودان رغم عظمة تجربتها ، وضخامة تضحياتها ، قد صاحبتها مشكلات تنظيمية تتمثل في انقطاع التواتر التاريخي للحركة وذلك بعد اقدامها على حل الكيان بصورته القديمة ، ودورانها في فلك المؤتمر الوطني صاحب الهيكل المنحل ، والجسد المعتل ، الذي طغى واستأثر واستغل بالحكم ، إن عوامل الانحلال والفساد قد دبت بالفعل في جسد هذه الحركة ، وتمكنت منها قبل أن تتشظى ، لأنها قوضت دعائم الشورى ، وأتت على بنيان المؤسسية. ولعل الشيء الأنوط بأفئدة الشعوب ، والأعلق بذاكرة الأمم ، الحضارة الإسلامية التي نشأت عراها ، وقامت مزاياها ، على الدين الذي كان مصدر مجدها وعزها وازدهارها ، فالدين هو المشكاة التي أمدت جميع مظاهر الفكر بمعين الكفاح والبذل والتضحيات ، فالحقيقة التي لا يماري فيها أحد أن"قدرة الإسلام على البذل والعطاء غير محدودة ، ولو نظرنا إليه بعيون مبصرة ، واستمعنا إليه بأذان واعية ، وتفهمناه بقلوب سليمة ، وجعلناه في مقدمة الحياة لا في مؤخرتها أو في وسطها لفجر فينا طاقات نتحول بها من شعوب ذليلة تأخذ ، إلي شعوب عزيزة تعطي ، ومن أمة ممزقة تابعة ، إلي أمة واحدة رائدة متقدمة "والحركات الإسلامية التي تدرك هذه الحقيقة لا تضن بقوة تملكها، أو جهد تقدر عليه من أجل الوصول لمقاليد السلطة ، حتى تقيم الدولة الإسلامية التي تنشدها ، وفي السودان نجد أن الحركة الإسلامية لم تناهض الأنظمة الماركسية وغيرها من الأنظمة القمعية التي تفاقم شرها ، واستطار أذاها ، إلا من أجل غاية أخنى عليها الزمان ، وذهب ببهجتها وديباجتها فالحركة الإسلامية السودانية قبل أن يشتد عودها ويقوى ساعدها ، كانت ندية الصوت ، حافلة الخاطر ، دامغة الحجة ، تدعو لتطبيق حكم الله الثابت في الواقع والممتد في الزمان ، ولكن ما أن تحقق لها هدفها الذي شبت في كنفه وتحركت في اطاره، حتى كرست لأطر الحكم الشمولي ، وأبصرنا أنظمتها ونخبها الحاكمة تنبري في أحاديث جوفاء ممجوجة أحاط بها الزيف من كل صوب ، وشابتها الغفلة من كل جانب فالطعام الوخيم ، والماء الكدر ، والفراش النابي ، يتنافي مع حقيقة هذه المزاعم ، كما أن سجلها في بسط الحريات يجعل المرء منا لا يعدم حجة للاعتقاد بأن الحركة الإسلامية التي أوصلت النظام الحاكم في السودان والذي ساد باسمها ، نست أو تناست أن رسالة الإسلام التي خلصت العقل من أساره ، وبينت له سبل الهدى والرشاد، في جوهرها تخاطب العقل الراشد ، وتستنهض عزائم الفكر المستنير ، وتستحث الهمم الطامحة إلي بلوغ مراتب السمو والكمال ، نعم لقد دعت رسالة الإسلام إلي اقامة دولة يكون العدل فيها ثابت الأركان، موطد الدعائم ، فالشيء الأدعى ألي اثارة الاستياء والاستنكار أن الحركة الإسلامية السودانية التي تعلم أن أسمى ما عرفته من مبادئ الإسلام ، وأشرف ما يمكن أن تتطلع إليه من غايات ، هو تطبيق شرع الله ، واشاعة العدل بين رعيتها ، ولكن رغم ذلك تبقى شريعة الله الخالدة جامدة هامدة بلا حراك ، ويبقى الشعب مقطوع الصلة بالعدل والحرية.