الودُّ الشفيف والحب الشديد الذي يُحظى به السوداني في كل صقع ووادٍ ، ليس مرده في وجهة نظري القاصرة ، حديثه الممتع الذي تتخلله الفُكاهة ، وتحيط به الدعابة ، أو لنضجه الذهنيط وثقافته المتعددة الجوانب ، بل لاستقامة خُلقِهِ ، ووضوح منهجهِ ، وللكم الهائل من حُسن السجايا التي يتحلى بها السواد الأعظم من هذا الشعب الشامخ ، ولعل الشيء الأنوط بأفئدة الشعوب ، والأعلق بذاكرة الأمم ، الكرم الذي يقف السوداني على جادته ، فصاحب اللون الكالح الذي يعيش بجسد مهدود ، وعصب مجهود ، يخِفُ للمعروف ، ويهتز للعطاء ، ويرتاح للندى ، ويمكنهُ أن يصبر على كل خطب ، ويثبت على كل محنة ، إلا نائبة تنفصم عندها عُرى جلده ، وينهار دونها جُرف اصطبارهِ ، فكيف لسخي مخروق الكف والجيب لا يبقي على ما كسب ، أو يقبض على ما ملك ، أن يلج داره ضيف ولا يوغل في كرم وفادته ، كيف لسبط الأنامل ، ورحب الذراعين، ألا يستسلم للشجون ، ويستكين للحسرة، وهو يرى الفقر المدقع الذي يقيم بداره ، كما يقيم الداء الوبيل بالجسد المعتل ، وضيف قصده من مكان نائٍ ، عندها . حتماً يتبدّل الثغر الذي يفترُّ بالابتسام ، وتغوص بشاشة الوجه الذي يومض بالبشر والوئام ، ويحل محلهما الكدر والسقام ، ولا يجد بقية الكرام مراغماً ولا سعة ، سوى الدين والاقتراض حتى يحتفي بضيفه ، ويطعمه من الأطايب التي تشرئب إليها كل نفس ، وتتوق إليها كل معدة. لأجل ذلك يهش الأنام في وجه السوداني ، ويتقاضون عن هناته عملاً بحديث المعصوم عليه الصلاة والسلام : «تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيدهِ كلما عثر ، وفاتح له كلما افتقر». وخاتم الأنبياء والمرسلين الغزير الفواضل ، الكثير النوافل ، الذي يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر وصفته سفانة بنت حاتم الطائي بأنه :«يحِبُ الفقير ، ويفكُ الأسير ، ويرحم الصغير ، ويقدر الكبير ، قال عن السخي:«السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة ، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل». وخصلة الكرم التي تعد بمثابة أصل المحاسن كلها ، خصّ الله قاطني الجزيرة العربية بالشقص الأغر ، والحظ الأكمل منها ، فقد كانوا معادن الكرم ، وسدنة السخاء ، فقد روت لنا أمهات الكتب العربية أخباراً في الجود ، يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود ، كما قال الأبشيهي منها خبر ذلك الأعرابي الذي جاء إلي سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وهو بفناء داره فقال :«يا بن عباس إن لي عندك يداً قد احتجتُ إليها ، فصعد ابن عباس فيه بصره ولم يعرفهُ ، فقال : وما يدك؟ قال : رأيتك واقفاً بماء زمزم ، وغلامك يمتح لك من مائها ، والشمس قد صهرتك ، فظللتك بفضل كسائي حتى شربت ، فقال: أجل إني لأذكر ذلك ، ثم قال لغلامهِ : ما عندك؟ قال : مائتا دينار ، وعشرة آلاف درهم ، فقال : ادفعها إليه ، وما أراها تفي بحق يده». ومن أجواد العرب في الإسلام سيدنا عبدالله بن جعفر ، كان الخليفة معاوية بن سفيان رضي الله عنهما ، يعطيه ألف ألف درهم في كل عام ، فيفرقها في الناس ولا يُرى إلا وعليه دين ، وحدث أن لامه أصحاب المجد الأصيل ، والشرف الأثيل ، السيدان الشريفان الحسن والحسين رضي الله عنهما على سرفه في بذل المال . فقال: بأبي أنتما ، إن الله عز وجل عوّدني أن يتفضل عليَّ، وعودتهُ أن أتفضل على عباده فأخاف أن أقطع العادة ، فيقطع عني المادة ، وحدث أن مرض السخي النقي قيس بن سعد بن عبادة ، فلم يهرع بعض أخدانه ومعرفته لعيادته ، فثقل ذلك عليه ، وحينما سأل عن سر ذلك الغياب ، قيل له : إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال : أخزى الله مالاً يمنع عني الإخوان من الزيارة ثم أمر منادياً ينادي من كان لقيس عنده مال ، فهو منه في حل ، فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العوّاد . [email protected]