تحدثت من قبل كثيرا، سواء في الحوارات المباشرة، أو عبر فعاليات شاركت فيها، عن مسألة التواصل المستمر بين الكاتب وزملائه من الكتاب والشعراء والفنانين، أو بين الكاتب وقرائه، الذين ربما يعرفون شيئا عنه، أو قرؤوا عددا من أعماله، ويودون مخاطبته مباشرة لإبداء رأي سلبي أو إيجابي في ما قرؤوه. هي رغبة تملكتني شخصيا في الماضي، كلما قرأت عملا عظيما مثل "الحب في زمن الكوليرا" و"اسم الوردة"، ووددت لو امتلكت الطريق المؤدي إلى غابرييل غارثيا ماركيز وأمبرتو إيكو، لأحدثهما عن انفعالي بهذين العملين، وأعمال أخرى لهما، ولم يكن ذلك متاحا بالتأكيد. الآن تغير كل شيء، بعد أن اتسعت رقعة التكنولوجيا، ودخلت الإنترنت في قرى ما كانت تدخلها الكهرباء فيما مضى، وأصبحت أجهزة الكومبيوتر المحمول في أيدي حتى المزارعين الذين يحرثون الحقول في شمال السودان، والمتمردين المتباهين برتب عسكرية مخترعة في كل مكان. ولا بد أن مواقع التواصل الاجتماعي التي أنشئت بكثافة، مثل تويتر وبادو وفيسبوك، وغيرها، قد أتاحت هذه الفرصة وجعلت الكاتب المنغرس في عزلته، يكتب دون أن يعرف أصداء كتابته، مطروحا أمام الجميع، بسيرته وصورته، وأسفاره، وأفكاره، ومناسبات أفراد أسرته. وما على القارئ المتابع لأعماله أو الذي سمع به مجرد سماع، سوى إرسال رسالة صداقة في الغالب يستجيب لها الكاتب الشغوف أيضا لمعرفة ماذا يقول عنه الآخرون، وبعد ذلك تتعمق العلاقة بينه وبين الصديق المفترض إلى أقصى حد. هذا شيء جيد بلا شك، أن تكون ثمة صلة من هذا النوع، موجودة بين الإبداع ومتلقيه الذين هم أساس انتشاره. وما كان يرسل عبر البريد التقليدي في الماضي، ويصل إلى المرسل إليه أو لا يصل على الإطلاق، بات يرسل عبر ضغطة زر، ويتلقاه الكاتب في نفس لحظة إرساله. وقد حرص معظم الكتاب، في جميع أنحاء العالم، الذين أقنعتهم خدمات الإنترنت وتفاعلوا معها، أن ينشئوا صفحات اجتماعية غير صفحاتهم الرسمية الجامدة، تصلهم مباشرة بالقراء، ويعرفون من خلالها آراء الناس في كتابتهم، حتى لو لم يردوا على أحد. وربما أخذوا بتلك الآراء في كتابة مستقبلية يعملون عليها، ومن ثم ينتج نص طموح، يرضي الكاتب شخصيا، وأيضا يرضي قراءه. وفي الوطن العربي، أصبح الفيسبوك بالتحديد، هو الناقل الرسمي لذلك التواصل، وتجد فيه كتابا وشعراء ورسامين وسينمائيين من جميع الأجيال، موجودين وجاهزين للصداقة مع كل من يطلب ذلك. لكن ذلك الأمر -أعني حمى التواصل المبالغ فيها- يبدو من وجهة نظري، محورا شديد الإنهاك للمبدع، غير المتفرغ للكتابة بشكل خاص، برغم فائدته الكبيرة، ففي أوروبا أو أميركا، برغم وجود صفحات التواصل هذه، لا تجد كاتبا يتلقى الصداقة ويرد على معجبيه أو منتقديه مباشرة، إلا نادرا. هناك سكرتارية تتابع صفحة المبدع بدقة وتتلقى عنه رسائل التواصل، وترد بلسانه، وتملك خاصية أن "تفلتر" الرسائل، وتنتقي منها ما لا يشكل إزعاجا كبيرا، أو إساءة أو كسرا للمسافة، التي لا بد أن تكون موجودة بين مبدع منشغل بإبداعه، وقارئ منشغل بالنبش في صفحات المبدعين والسعي إلى صداقتهم افتراضيا. حتى رسائل البريد الإلكتروني، تمر عبر تلك القناة الموظفة، وبالتالي لا يبقى للكاتب سوى كتابته، التي تعتبر وظيفة رسمية، لا تحتمل أكثر من تلك الصفة. أذكر موضوع كتاب أميركي، ترجم إلى اللغة العربية في العام قبل الماضي، وقام المترجم العربي، منطلقا من آراء شخصية كما يبدو، بإيراد فقرات من عنده، لم ترد في النسخة الأصلية، أساء بها إلى شعب إحدى الدول العربية. وهب نشطاء من تلك الدولة، مبدين استياءهم الشديد، وخاطبوا الكاتب مستنكرين، عبر آلاف الرسائل في بريده الموجود على صفحته، وجاء الرد من عدة أشخاص، قالوا إنهم من طاقم السكرتارية الخاص بالكاتب. وحمل الرد اعتذاره الشديد، وأنه يستنكر معهم بشدة تلك الفقرات المسيئة، التي لم تكن موجودة في نصه الإنجليزي، مع ملاحظة أن الكاتب شخصيا لا يعرف أي شيء عن بلاد العرب، خاصة تلك الدولة التي أساء إليها مترجم كتابه، لكنها كانت فرصة جيدة لأن يعرف، عسى أن يكتب نصا منصفا في المستقبل، يلغي به تلك الإساءة. هنا في عالمنا العربي، لا توجد وظيفة اسمها سكرتارية للكاتب، ولا جهة مساندة تتلقى عنه الرسائل أو المكالمات، وترد عليها. ولا يوجد أصلا كاتب يستطيع أن ينجو بإبداعه من شرك لقمة العيش المر، ويتوارى خلف تواصل لن يقوم به بنفسه، وبالتالي لا بد من سقوطه تحت حمى التواصل اليومي، واستجابته لما يكتب عنه، أو يرسل إليه. وتدريجيا يتحول -كما قال أحد الكتاب العرب- من كاتب ذي وهج أخاذ في نظر الكثيرين، إلى قارئ عادي لخواطر المتواصلين، ملزما بوضع علامة (أعجبني) على صورة فتاة غيرت ديكور شعرها، لأنها وضعت تلك العلامة على صورته. وهو يلهث، متحدثا عن تجربته في إحدى الندوات، أو معلقا على خاطرة مثل "سقط القمر على حاجبي، فقررت أن أستحم بضيائه"، لأن كاتب تلك الخاطرة البهلوانية، علق على قصة أو تجربة، نشرها هو من قبل على حائط تواصله. وما هي إلا أيام أو أشهر معدودة، حتى يتحول ذلك المبدع الكبير، في نظر الذين صادقوه افتراضيا، إلى مجرد فرد موجود ومتاح بشدة، ربما يعبر الآخرون بكتابته على حائط التواصل، ولا يلتفتون إليها على الإطلاق، أو إذا التفتوا، يكتبون له شيئا بعيدا تماما عن جمر الإبداع الذي من المفترض أنه هو الذي أنشأ تلك الصداقة بين الكاتب وقرائه. مسألة أخرى لا بد من الإشارة إليها، وهي عدم وجود عذر محترم أو مقبول للرد به، حين يرسل كاتب شاب مخطوطه الذي يعتبره مقدسا، لصديقه الكاتب الموجود بتعليقاته، وإعجاباته تحت النظر، يريد رأي الكاتب في ذلك المخطوط، أو يطمح لكلمة تقدمه للقراء يجود بها. بالقطع لا يمكن لكاتب مهما تفرغ أن يقرأ كل شيء يصله، ويكتب عنه، ولا يمكن أيضا أن يتجاهل ما أرسل إليه، كأنه لم يصل، وهنا تكمن وعورة التواصل المباشر أكثر. شخصيا أرسلت بالبريد، رواية لي اسمها "سماء بلون الياقوت"، منذ عشرين عاما إلى كاتب كبير، أردته أن يقدمني بها للقراء، ولم يحدث ذلك التقديم، ونشرت هكذا بلا اسم لامع يزين غلافها، وحين التقيت الكاتب بعد عشر سنوات من نشرها، أخبرني ببساطة، أنه لم يتلق أي رسالة مني، وأنها ربما ضاعت كما تضيع الرسائل البريدية عادة، وكان هذا عذرا مقدرا في الماضي. إذن، كيف تحل مشكلة التواصل بلا فوضى ولا حماقة ولا اكتساب عداوات؟ هذا ما أظل أفكر فيه بلا انقطاع. ______________ روائي وكاتب سوداني المصدر:الجزيرة