البارسا ينتصر بسداسية    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    هل تم إطلاق مسيرات العدوان من جنوب السودان..؟    البرهان يعلن تضامن السودان الكامل مع قطر    لقد غيّر الهجوم على قطر قواعد اللعبة الدبلوماسية    الإتحاد الأفريقي يُرحب بمقترحات الآلية الرباعية بشأن تسوية نزاع السودان    الهلال يفشل في فك شفرة عرش سيكافا ويكتفي بالوصافه    أمير قطر: إذا كانت إسرائيل تريد اغتيال القيادة السياسية ل"حماس" فلماذا تفاوضهم؟    سبب استقدام الشاب أموريوم لتدريب اليونايتد هو نتائجه المذهلة مع سبورتنغ لشبونة    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    أمير قطر: بلادي تعرضت لهجوم غادر.. وعازمون على مواجهة عدوان إسرائيل    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    السيتي يتجاوز يونايتد في الديربي    السودان يردّ على عقوبات الخزانة الأمريكية    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    ركابي حسن يعقوب يكتب: ماذا يعني تنصيب حميدتي رئيساً للحكومة الموازية؟    غرق 51 سودانيًا    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالفيديو.. الناشطة المثيرة للجدل "زارا" التي وقع الفنان شريف الفحيل في غرامها تعترف بحبها الشديد للمال وتصدم المطرب: (أرغب في الزواج من رجل يملك أكثر من مليون دولار)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفتح النار على المطربة إيمان الشريف: (المجهود البتعملي عشان تطبلي لطرف تاني قدميه لزوجك لأنك مقصرة معه ولا تعطيه إهتمام)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    محمد صلاح يضرب شباك بيرنلى ويُحلق ب"ليفربول" على قمة البريميرليج    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    ترامب يلوح بفرض عقوبات كبيرة على روسيا    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    انتقادات عربية وأممية.. مجلس الأمن يدين الضربات في قطر    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبوداؤد... 28 عاما علي رحيل زمان الغناء الجميل
نشر في الراكوبة يوم 08 - 08 - 2012

وعبدالعزيز محمد داؤد ظريف ظرفاء زمن الغناء الجميل ، ومساجلاته الفاخرة مع توأم روحه البروف الراحل علي المك ، صاحب الكتابة الجميلة والمبدعة والتي ظللت أطلق عليها دائما ( الكتابة الفاخرة ) لأن كتابات علي المك تخاطب كل الأجيال حتي التي لم تولد بعد بلغة جديدة ومتجددة أيضا ، فالرحل يمتلك ناصية الكلم تماماُ .
وهنا نستعيد ذكري ما سطرناه من قبل عن رحيل أبودؤاد ورثاء علي المك له نثرا وذكريات وحكاوي ، لنعيد نشرها لأجيال جديدة وقديمة أيضا من اهل السودان .
كان ذلك الرحيل المرير لأشهر الظرفاء في عالم الفن والطرب السوداني الأصيل .. بل أشهر الظرفاء في كل الحياة الإجتماعية السودانية علي الإطلاق.. كان ذلك الرحيل المرير للراحل المقيم عبدالعزيزمحمد داؤد هو في أمسية السبت الحزين في الرابع من أغسطس من عام1984م... حيث كانت السماء في ذلك المساء البحراوي الحزين تكتنز بالسحب .. نعم.. مات أبوداؤد في عز الخريف ، حينذاك هطلت زخّات مطر خفيف ولعل ذلك السحاب أبي إلا أن يرطِّب ثراهُ بحبات المطر الحزين تلطيفاً لسخونة أجواء الخرطوم في بداية أغسطس.
مرت سريعاً تلك السنوات ، لكننا لازلنا نحس برحيق نكات أبوداؤد قبل أدائه لفاصله الغنائي حيث كانت تمدد القفشات الرائعات لتغطي كل سماء الوطن.. إذن.. أن الراحل المقيم لا يحتاج لأن نسرد للناس طبيعته وسرعة بديهيته ، فذلك أمر واضح ومفهوم ومعلوم ولا يحتاج كثير إضافة ، وفنان في مثل قامة عبدالعزيز محمد داؤد لا يحتاج أيضاً لكثيف ضوء بقدرما نحتاج نحن دائماً ألا يفارقنا صوته حين يخاطب خيالاتنا:
مساء الخير.. إنت يا الأمير
يا الحُبك سكن الضمير
يا ملاك... هي .. والله
غيرك .. ما لي سمير
يدندن بها أبوداؤد وهو لا يزال ( ينقر) بانامله علي علبة الكبريت أبومفتاح ، تلك العلبة التي لا تفارق جيبه مطلقاً ، فهي -كما يقول - يستطيع أن يسد بها مكان أوركسترا كاملة إذا إضطرته الظروف للغناء ذات لحظة بدون فرقة موسيقية لأي سبب من الأسباب ، فلقد عاشت معه علبة الكبريت تلك أحلي السنوات ، وله معها أجمل الذكريات ، ليس ذلك فحسب .. بل لأهل السودان كلهم أجمل الذكريات .. مع تلك الكبريتة التي لا زالت هي أيضاً تفتقد أنامل أبوداؤد ونقراته اللطيفة عليها ( عليه الرحمة)
يقول الراحل المقيم والصديق الصدوق لأبوداؤد .. وهو البروفيسور علي المك حين يحكي لنا في ذلك الكتيب الراقي الذي أصدره عقب وفاة حبيبه أبوداؤد حيث يذكر لنا علي المك بقلمه المتمكن الظريف ،كيف تلقي خبر صدمة هبوط قلب عبدالعزيز قبل يوم من وفاته ، فيقول علي المك- طيب الله ثراه- بأسلوبه الممتع الراقي الجاذب بحق:-:
( في يوم الجمعة التي بدأت فيها رحلة الموت ، كنت مدعواً في بيت أحد الجيران ، والدعوة كانت – غداء- والنهار حار ومضجر، لا أعلم ، تباطأت شيئاً ، ولكني ذهبتُ علي كل حال، وجدت خلقاً كثيرين ، كان أحد المغنين، ودأبه كان تقليد أداء عبدالعزيز ، ولكنه بون شاسع، قال يبدي تظرفاً أمقت صنوفه : صاحبك صوته خفّ ، قلت بحدة : صاحبي منو؟ قال: عبدالعزيز داؤد ، قلت ساخراً: ماهو إنت موجود!! .. ضحك القوم ضحكاُ كثيراً ، تشاءمت، أكلت في عجلة ، عدت للبيت، وحدي كنت، وفي التلفزيون وجدت ألواناً من مسابقات الأولمبياد في لوس أنجلوس ، لم تفد حالتي كثيراً ، أعرف الإكتئاب النفسي يقيناً ، كنت لا أعلم من أمره، الأكتئاب، كبير شيء، ولكن الأزمنة صعبة ، والتمرس بمقابلة المكاذبين يبدو أول أمرهم ، براءة الأطفال ، هدّ من صلابة النفس ونقائها كثيراً ، عرفتُ الإكتئاب إذن ، يقيناً والجمعة 3 أغسطس كان يومه.
وحين بدأت شمس النهار بالإخفاق ، أبصره حيث كنت في البرندة ، سمعت حركة اقدام ، ثمة من يصفق، نهضت من موقعي، فتحت الباب ، أمامي كان عثمان محمد داؤد ، أحييه في حماسة ، ثوان وتخال دهوراً لعله كان يود يختزل مجاملات التحية الطويلات ليقول لي شيئاً أهم كثيراً من مجاملات السلام ، توقف السلام ،قال: صاحبك جاء من الأبيض عيان جداً ،،
تركت التلفزيون يحفل بالعدو والملاكمه والسباحة وإنطلقت معه نبحث عن طبيب، وعدنا طبيب صديق يتبعنا ذهبنا إلي الخرطوم بحري، ما أنكرنا حي الدناقلة ،كان بي حفياً منذ أن جعلته وطن الوجدان يكون في دار عبدالعزيز. ذلك كان في أخريات الخمسين، جسر مطمئن علي الخور يفضي إلي زقاق فيه دار عبدالعزيز، لا أعلم لماذا تفرست في معالم الجسر الصغير في ذاك الموعد من ذاك اليوم ولأول مرة فوقه حصي ، وعليه مع الحصي تراب، وكان يضايق السيارة إنه في حافتي الجسر تكون دائماً مجموعة صبيان ، أقدامهم تزيد ضيق الجسر ضيقاً تخال أحيانا أن أقدامهم تدعو إطارات السيارات أن تدهسها. تارة ينهضون من مجالسهم مبرمين، وأحياناً بذوق حسن ، في ذاك الموعد من ذاك اليوم لا صبيان ولا أقدام صبيان ، ليس هناك من شيء علي الجسر إلا الحصي وإلا التراب ، صرنا إلي البيت، ثوان وتخال دهوراً ، بعد الباب المضياف ، وجه عبدالعزيز ، كان جالسا علي كرسي ، أسند ظهره علي وسادات ، تعين علي قليل من راحة يحتاجها قلب متعب مجهد ، مرهف، أنفاسه تجعل من جلابيته شراعاً تعبث به الريح وتنفخ فيه ، لا تسعفه الأنفاس المبهورات، لم يتعود هذا الإنسان الرائع أن يصمت ، هش لي وبش، وضعت أكتئابي بين يديه، دأبي منذ عرفته ، يعرف ما يضايقني قبل ان أبوح به ، نظر إليّ ، ضحك ضحكاً صافياً هزم به الأنفاس المبهورات ، قال: إنت لسع محافظ علي جلابيتي الجبتها ليك ؟ ضحكتُ بصفاء جعل الإكتئاب المر يتساقط من خيوط الجلابية ، يغادر نفسي ، جلست أنظر إليه ، تذكرت لحظتها زماناً في الستين وكنت أعد نفسي للسفر للدراسة في أمريكا، جاءني عبدالعزيز وأهداني جلابية زرقاء اللون وفصلتها وحملتها معي ، وحين عدت إلي الوطن سألني ؟ ماذا أحضرت لي معك ، إنشاء الله جلابيتي رجعت معاك ؟ ضحكت، قلت: والله يا أستاذ كل الجبتو معاي أسطوانات وفونوغراف ، قال: بس ؟؟ مرحب بالغاب .. وجاب !! ( إنتهي جانب من حديث علي المك وسنعود له لاحقاً)
كان أبوداؤد رجلاً معطافاً .. يحب فعل الخير ، بل ويموت فيه كما يقول المثل ،يفعله دون رياء ، يفعله كما يقول أصحابه دون أن يدري المعطوف عليه انه قد أتته خدمة لوجه الله من أبوداؤد .. وذلك ديدن العظماء من الناس ، فالبعض يعتقد – من فرط الفقر الذي ضرب أهل السودان مؤخراً- أن فعل الخير والصدقات لا تكتمل إلا حيث يتواجد المال .. صحيح أن المال السائل هو ( حلال المشاكل) الحياتية المعقدة ، لكن هنالك أشياء لا يستطيع مال الدنيا حلها ، لأن حلها هو ربما يكون في فعل صغير بسيط يذيل الهم ويذيب الفوارق ويقرب القلوب من بعضها وهو أكبر صدقة وأكثرتأثيراً وأطول أثراً وصدي من المال وهو الذي ينطبق عليه قول المصطفي الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام تبسُّمك في وجه أخيك صدقة).. يا سبحان الله ، فلك أن تتخيل مدي العمق والأثر الذي تتركه البسمة الخالصة لدي الإنسان.. لذلك نقول أن أبودؤاد كان هو المتصدق كثيراً بماله وبتبسمه في وجه الناس.. وهو محظوظ أن عرفه الناس بهذه الخصال .
كان أبوداؤد حين يغني فإنه يغني لنفسه أولاً قبل أن يغني للآخرين ، كان حين يمدح أو يرتل القرآن تجده يذوب وجداً ورهافة في قدرة الخالق جل وعلا.. كان عبدالعزيز كل هذا وذاك . لذلك تظل ذكراه دائماً خالدة وجميلة في نفوس ابناء شعبه. وفي الواقع لقد ترك أناس كثر أجمل الذكريات في خواطر الشعوب وأيضاً في سجلات التاريخ الإجتماعي ، وبنفس المستوي نجد العكس تماماً .. حيث يظل يرحل أناس آخرين ولكنهم لا يتركون أي أثر إيجابي خلفهم يستطيع الناس في مجتمعهم أن يذكرونهم به ، وتلك الأخيرة أصبح بعض الناس لايضعون لها قليل قيمة ، لكنها – علي أية حال- ضئيلة الحدوث في مجتمع أهل السودان ، فالغالب الأعم عند أهل السودان هو ( تبسمك في وجه أخيك صدقة) .. وليذهب عابسو الوجوه إلي الجحيم غير مأسوف عليهم.
كنت ذات مساء.. والدعوة كانت مفتوحة للمعلمين في ذلك الزمان بدار الإتحاد الإشتراكي (العملاق) كما يصفه دائماً (أب عاج) في خطبه العديدات .. كنت حاضراً في شتاء عام 1973م تحديداً ليلة فنية ثقافية بمناسبة إنتهاء فعاليات عيد العلم في تلك الدار ، كنا طلاباً بالمساء بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ، وكانت مهنة التدريس الراقية هي الملاذ الذي لذنا به كي نقدم خدمة جميلة لوطننا ولكي نقوم بتأمين مصاريف السكن والإعاشة والدراسة الجامعية ( نحن أبناء الأقاليم) ، فكانت أجمل أربع سنوات من عمري عملت فيها معلماً في عدة مدارس بأم درمان ، وتأتي بيت المال الإبتدائية في مقدمتها، كنا شلة طلاب ومعلمين ظريفة ومتوثبة ، في عز شبابنا ، وكان السودان عملاقاً ومتوثباً أيضاً ، كان الإقتصاد متوازناً بالقدر الذي كنا نستمتع فيه بالراتب الذي لا يتجاوز الثمانية والعشرين جنيهاً في الشهر فقط .. كنا نستمتع بكل مباهج التسلية والترفيه، نشاهد مباريات هلال جكسا وعلي قاقارين والدحيش وفوزي وزغبير من المساطب الجانبية ، ونلتقي بأهداف كمال عبدالوهاب وبشارة وبشري والفاضل سانتو . كنا بتلك الماهية الكبيرة نرسل للأهل في بركات بودمدني ما يعين علي مشاكل الحياة المتواضعة ، ولا ننسي ليلاً متابعة كل أفلام سعاد حسني ( أخت القمر) وفي مقدمتها ( خلي بالك من زوزو) في كوليزيوم الخرطوم والبلو نايل .. حيث لم يكن للشماشة وجود بعد في قلب العاصمة. كانت تلك الأمسية بدار الإتحاد الإشتراكي وأب عاج ( قاعد) أمام الخلق ولا زلت أري طاقم من الوزراء والمسوؤلين وهم يصطفون في مقاعدهم، منهم من كان يرتدي الزي القومي كمنصورخالد وأحمد عبدالحليم ، ومنهم من كان يرتدي السفاري كالمرحوم جعفر بخيت ومنهم من إكتفي بالقميص والبنطال كزين العابدين وابو القاسم محمد إبراهيم ، غير ان اللواء الباقر – وقد كان النائب الأول- يرتدي ( الفل سوت) . كان المطربون الذين يؤدون الحفل هم المعلمون الفنانون ، حيث أن المناسبة هي تعليمية بحتة ، كان هناك محمد ميرغني.. عبدالقادر سالم.. صديق عباس.. علي ميرغني.. أبو داؤد الذي كان قد إنضم إلي قسم المسرح المدرسي بوزارة التربية وقتذاك ، صعد عبدالعزيز علي خشبة المسرح والأوركسترا تستعد للوصلة ، هنا طلب أب عاج من عبدالعزيز أن يقول نكتة قبل الغناء ، ضحك عبدالعزيز ، ( مسح بالمنديل علي رأسه ) ثم قال: كان في واحد قلبو رهيف جداً ،عندو حنية أكثر من اللزوم، يبكي لأي سبب يؤثر عليه، يحزن إذا شاهد أحد أقربائه أو أصحابه مريضاً ، وفي مرة تم نقله للعمل في منطقة بعيدة ، فودع أهله وسافر ، وكان يزورهم في الأعياد دائماً مثل عادة السودانيين ، وأثناء غيابه بعيداً عن أهله ، توفي والده ، فإحتار الناس كيف يوصلون له هذا الخبر ، وكانوا يخافون عليه من أن تحدث له كارثة إذا سمع بالوفاة ، وبدأ الناس يتشاورن خلال أيام المأتم ، فإتفقوا علي أن يرسلوا له بالعودة فوراً إلي الخرطوم بقطار السبت القادم مثلاً ، وإتفقوا أيضاً أن يخبروه في محطة السكة الحديد بعد وصوله ، ولكن كيفية توصيل الخبر كانت أيضاً مشكلة قائمة ، فرصدوا جائزة قدرها خمسين جنيهاً لمن يوصل له خبر الوفاء دون أن يتأثر أو تحدث له صدمة مميتة ، وهنا كل الناس ( زاغوا) إلا شخص واحد كان خفيف الدم فإلتزم بتوصيل خبر الوفاة له في المحطة وبعدها يقبض الحافز، وفعلاً ذهب في إنتظاره ، وفور نزوله من القطر قال له : جاييي مالك من عملك إنشاء الله خير ؟؟ فرد عليه : واالله الجماعة ديل رسلوا لي إشارة عاجلة للحضور وأنا الآن في قلق شديد علي الحاصل ، وهنا سأله : إنت آخر مرة شفت فيها أبوك متين ؟؟ فرد عليه: في العيد الفات ، فقال له : تاني كان شفتو .. أحلق دقني دي !! الله يرحمك يا أبوداؤد.
وعبد العزيز في فن الغناء قد طرق معظم ألوانه ، فقد تغني لحقيبة الفن باغاني ظلت مرتبطة به إرتباطاً وثيقاً حتي ظن الناس أنها صنعت خصيصاً لأبوداؤد وليست أغان حقيبة ، وقد كان يؤديها بدرجة عالية من التطريب:
زهرة الروض الظليل .. غصن الرياض المايل.. فلق الصباح.. ياليل صباحك مالو ... من أول نظرة .
تغني عبدالعزيز لعدة شعراء ، تغني وكان ذلك الراحل المقيم الموسيقار برعي محمد دفع الله يخرج له الألحان الرائعات بتلك الموسيقي الجميلة التي تستنشق فيها عبير أنغام برعي ، برعي دفع الله كانت له طريقته الخاصة في تأليف اللحن ، وقد إرتبط عبدالعزيز مع برعي إرتباطاً فنياً وإبداعياً منذ منتصف الستينيات وحتي وفاته ، مثلما إرتبط به بشير عباس طويلاً ..قبل إلتقائه بالبلابل .
تغني عبدالعزيز بالروائع الخالدات: هل أنت معي .. أنت لي.. أجراس المعبد.. تلك كانت بفصيح اللغة وكيف ننسي في مقدمة كل ذلك تلك المشهورة عربياً ويؤديها عدة مطربين عرب بطريقتهم ، إنها عروس الروض يا ذات الجناح ياحمامه .
اما الغناء الدارجي فكانت له درر غوالي: مساء الخير.. انا من شجوني..في حب يا أخوانا أجمل من كده ثم تلك الصامدة الجميلة ( نعيم الدنيا) التي يغرد بها المبدع علي اللحو.
كان الراحل الظريف الفنان عبد دالعزيز محمد داؤد يجيد غناء التواشيح ، بمثل إجادته للمدائح النبوية والترانيم الدينية التي تأتينا من وقت لآخر في صباحات السودان التي كانت مشرقة من راديو أم درمان . وهل ننسي تلك الرمية التراثية التي كم كان يبتدر بها الغناء في الأفراح :
الطابق البوخه
قام ندا يهتف..
نام من الدوخة
إيدو عاقباه..
جدله مملوخه
لمعالق الجوف..
موسو مجلوخه
ياناس الله لي
أما كيف كانت تلك العلاقة التي أصبحت كالتوأمة بين البروفيسور الراحل علي المك وبين عبدالعزيز ، فلنترك فقيدنا الضخم علي المك – عليه رحمة الله - يحكيها لنا برشاقة قلمه العجيب كما ذكرنا:
( عرفت عبدالعزيز داؤد أول مرة عام 1958م ،ذهبنا إلي داره في الدناقلة شمال، عبدالماجد بشير الأحمدي وأنا، كان الوقت عصراً ، وفي إتحاد طلاب جامعة الخرطوم حفل في ذات المساء ، وللرجل سمعة مدوية في – التعليق- وعدم الظهور في الموعد المضروب ، قال الأحمدي أنه يثق في بلدياته عبدالعزيز وفي كلمته ، الأحمدي من ناس بربر ، وكان بمدينته يفاخر ، كنت في شك من الأمر وكبير، أطل عبدالعزيز من الباب، رحب بنا ، قال: سأحضر لحفل الجامعة ، وبر بوعده وغني، ومنذ ذاك المساء توطدت صلتي به ، وصادقته بضعاً وعشرين سنة، لم نكن نفترق أثناءها إلا قليلاً ، عرفت زوجه وأبناءه واهله ، وكأني بعض أهله، وحين ماتت – فلة – وهي كلبة الأسرة ، حزنت عليها زوجته حزناً شديداً ، خاصة أن فلة قد ألفت دار عبدالعزيز جرواً صغيراً لحين أن أسنت وماتت وكان عبدالعزيز قد أحس بحزن زوجته فناداها وقد إستبدت به روح الدعابة فقال: يافوزية شدي حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك. )) .. إنتهي حديث علي المك .
ومن دعابات عبدالعزيزأن قابلته ذات مرة وهو خارج من الإذاعة إمرأتان وقد كانتا من المعجبات بفنه جداً وهو يعرف إحداهما دون أن يتذكر إسمها ، فأقبلت نحوه وحيته وقالت له أنا ما دار النعيم .. نسيتني وللا شنو يا عبدالعزيز ؟ وكانت رفيقتها الأخري ضخمة الجسم وتأخرت قليلاً إلي ان وصلت عبدالعزيز وسلمت عليه ، وأرادت دار النعيم أن تعرف أبوداؤد علي صاحبتها ، فأسرع عبدالعزيز قائلاً : عرفتها .. دي دار الرياضة.. فضحكوا جميعاً .
أبوداؤد كان زعيم المجاملات ، لا يحرج احداً ولايرد طلب أحد ، يلبي طلب أصغر طفل عندما يطلب منه نكته أو مزحة أو حتي اغنية في أي موقع كان هو فيه . وذات مرة كان المريخاب يقيمون حفل تأبين للقطب المريخي الكبير الفنان (علي أبو الجود) ، وبالطبع كان علي المك علي رأس هؤلاء .. فهو كما نعرف- أي علي المك - مريخابي علي السكين ، بل ويجاهر به بتعصب جميل ، فهو أم درماني الإنتماء والوجدان و له في المريخيات باع طويل ، فقد كان معه ذات مساء في عربته عبدالعزيز ، فقال له نمشي نادي المريخ ، فاليوم حفل تأبين لعلي أبو الجود ، فوافق عبدالعزيز ، ليس للغناء ، ولكن متفرجاً علي الحفل ، وكان النادي يعج بكواكب فن غناء الحقيبة ، ولكن عندما رأي الجمهور جلوس أبوداؤد مع الحاضرين فقد طلبوا منه المشاركة رغم عدم إستعداده الفني من حيث الأوركسترا ، فلم يرفض ، بل نهض وصعد علي المسرح وطلب تزويده ( بالرق) وببعض كورال من الشيالين ، ففعلوا ، فإبتدر الغناء بتلك الرمية:
الجرحو .. نوسر .. بي
غوّر .. في الضمير
فوق قلبي.. زاد الكي
ياناس .. الله.. لي
ثم بدا يشدو برائعة كرومة وأبو صلاح والجمهور يكاد ينفلت من الفرحة والهياج ، فكان ظهور تلك الأغنية علي طريقة أبوداؤد:
يازهرة .. طيبك ... جاني ليل
أقلق راحتي..حار بي الدليل
زاد وجدي .. نوم عيني اصبح قليل
لو مر نسيمك علي ألف ميل
يخلي العالم طربا يميل
زاد وجدي نوم عيني أصبح قليل
فخرجت من وقتذاك ( زهرة الروض الظليل) من سباتها العميق لتبدأ تنتشر من جديد مع صوت أبوداؤد الذي كم حلق بها كثيراً بخيالاتنا ، وخيال أهل السودان المحب للفن والطرب الأصيل لعقود طويلة من الزمان.
ولأننا في حضرة ذكري أعظم مبدعينا ابو داؤد وعلي المك ، فإنني أختتم بكلمات الأخير ، كيف يصف لنا الرحيل ، رحيل عبدالعزيز ، فقال علي المك :
( في اليوم التالي .. السبت 4 أغسطس.. جاء إليّ في البيت بأم درمان محمد أحمد حمد زميل دراستي، وجار عبدالعزيز، أهناك وقت للتحية ؟ نظرت في وجهه ، لحظ في وجهي، لا ريب، أثر الفجيعة يوشك هو أن يطلق عنانها خبراً ، قال إن عبدالعزيز حالته خطيرة ، ذهبنا إلي الطبيب ما وجدناه ، أخذناه إلي مستشفي الخرطوم بحري، قلت له إنطلق بي ، حين وصلنا إلي المستشفي لم يكن علي أبوابها جمع حاشد ، أوقفنا السيارة قبل ان نسأل ، سمعنا رجلاً فقيراً ما ستر الليل فقره يحدث بائساً مثله في ليل بحري يقول له : أبو داؤد مات ! ! أنفجرت السيارة ، نحن بداخلها، تبكي! .. أعدت الطبيعة عدتها ، زمجر الريح في الأشجار مكتئبة الأغصان، تبكي ، صعد الغبار يبكي ، قالت الطبيعة: إن هذا نصيبي من الحزن تكون الفجيعة ليلة عدم الرؤية مدببة الأطراف وذات أبعاد ، إنطلق الأسي علي شاشة التلفزيون يبلغ الناس الخبر الذي- جلّ حتي دقّ فيه الأجل – لقيت عبدالله عربي أمامي جالساً، يتيم الكمان ، علي الأرض يبكي، والفاتح الهادي يبكي، وجل أهل الموسيقي ، برعي دفع الله كان بعيداً في تونس ليلة الفاجعة ، بشير عباس في جدة ، وبقيت وحدي ، وجاء كل اهل الموسيقي يبكون ، وكل الوتريات تبكي، ورق كرومة يبكي ، والخرطوم بحري دخلت بيت الحبس..)
رحم الله علي المك .. فقد كان علامة متألقة من علامات مجتمع أهل أم درمان ومحيط الجامعة وبرامج التلفزيون .. يزداد ضوء تلك العلامة ويتلألأ في كل ذكري لأبوداؤد ..و رحم الله عبدالعزيز محمد داؤد، فقد كان حيياً ، خفيف الدم .. عفيف اليد واللسان ، يتغني حتي لعمال المنطقة الصناعية بمختلف تخصصاتهم المهنية دون تعالي ..وفي عز النهار الساخن والعرق يتصبب منه..عندما تكون سيارته قيد الإصلاح.
رحل عبدالعزيز في ذلك المساء الحزين بالسبت الحزين في الرابع من أغسطس عام 1984م ، وبرحيله نكون قد ودعنا أعظم ظرفاء اهل السودان وأروعهم فناً وجمال نكات .. فله الرحمة بإذن الله جلت قدرته ..
ونقول له قبل الوداع .. أنك يا عبدالعزيز كنت تبعث فينا حزمة أفراح لا حدود لها.. تجعلنا نتمسك بتراث كل السودان وقفشات أهله الرائعات .. والتي بدأت في التداعي وبدأ يخبو ضؤها الفريد..... مؤخراً جداً ..
فنقول لك قبل الوداع:..( غار الصيد منك عيون.. أهدي ليك البانه لون.. ياملاك هي والله ...غيرك مالي سمير .) وإلي اللقاء ،،،،،،
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.