مدريد - راكيل ميجل - منذ 36 عاما رحلت إسبانيا عن مستعمراتها في إقليم الصحراء، ومرت أربعة عقود على خروج قواتها من مدينة إفني التابعة للمغرب اليوم، إلا أن الوجود الإسباني في شمال إفريقيا ترك أثرا لا يمكن محوه، فبرغم وجود علاقات قوية بين المنطقتين الواقعتين شمال وجنوب البحر المتوسط، هناك أيضا ظلم كبير ونسيان وهجر لا تزال المستعمرة القديمة تعانيه حتى اليوم. هذه الذكرى التاريخية الضائعة في القارة التي تبدأ عند الجانب الأخر من مضيق جبل طارق هي التي يسعى كل من المخرج بدرو بالاسيوس والسيناريست باتشيكو إيبورا لاستعادتها في فيلم"أرامل إفني" الوثائقي والذي ترشح مؤخرا لجوائز (جويا) السينمائية والتي توازي قيمتها في العالم الناطق بالإسبانية جوائز الأوسكار الأمريكية. يعتبر هذا الفيلم بمثابة نواة لمشروع أخر أكبر حجما يسعى بدوره لإحياء جانب من التاريخ الذي عاشته إسبانيا في مستعمرتها القديمة حيث سيحمل العمل إسم "آثار الزمن". وفي حوار مع وكالة الأنباء الألمانية ( د.ب.أ ) يقول بالاسيوس إنه: "لا يوجد توثيق تاريخي لشهادة جيل كامل من الإسبان الذين عاصروا حقبة فرانكو بشكل مختلف ومجهول بالنسبة للجميع، إفني كانت بمثابة جنة خلال فترة إسبانيا ما بعد الحرب الأهلية (1936-1939) في وقت كانت البلاد تعاني فيه من الجوع". ويوضح المخرج الإسباني أن هذا الأمر يحمل طابعا شخصيا بالنسبة له لأن والده حسب قوله كان "أول من وصل لمنطقة سيدي إفني عقب الحرب حينما لم يكن هناك أي شيء، ونشأ هناك في هذه المستعمرة البعيدة عن شبه الجزيرة الإيبيرية". وبدأ العمل في المشروع حينما التقي بالاسيوس وإيبورا ب"أرامل إفني"، وهن نساء من العسكريين والمدنيين جندهم الإسبان للعمل في خدمتهم، وبموجب قرار صادر من الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو في 1965 تم حرمانهم من المعاش الذي كان سيسمح لهم بالعيش بقية حياتهم بطريقة كريمة. وعن حياة فاطمة وصابحة وعائشة، وهن ثلاث من بطلات الفيلم الوثائقي، واللاتي تعشن في المدينة دون عمل ثابت أو أي خيارات اقتصادية واضحة سوى جمع "بلح البحر" من الساحل لسلقه وبيعه في السوق المحلي، يقول بالاسيوس أنهن "يعملن 16 ساعة يوميا للحصول على مبلغ يتراوح من خمسة إلى سبعة يورو، هذا اذا حصلن عليه، يعشن طريدات في المجتمع دون عمل وفي بؤس دون أي مصادر مالية". وأضاف بالاسيوس "هذا هو ما يعرضهالوثائقي، يوم في حياة هؤلاء النساء اللاتي تعشن بصورة سيئة بسبب إسبانيا، هذه المشكلة خلقتها إسبانيا، وقرر فرانكو وكل الحكومات الديمقراطية التي جاءت من بعده نسيانها، إنها مسألة ذاكرة تاريخية يجب استعادتها لاقامة العدل". وأردف مخرج العمل "خلال فترة الاستعمار، جندت إسبانيا مواطنين من إفني ودفعت بهم إلى أتون الحرب الأهلية الإسبانية لمؤازرة القوميين، ليس لأنهم كانوا مهتمين بدعم هذا الطرف بل لأنهم كانوا مجبرين على ذلك، الكثير منهم كانوا أبطال حرب عظماء وتوجوا بأعلى الأوسمة وفي أوقات السلام قدموا خدمات أخرى سواء عسكرية أو مدنية للإسبان، أغلبهم عاد لإفني إلا أن جزءاصغيرامنهم قرر البقاء في شبه الجزيرة وشكل بعضهم ما يعرف باسم (الحرس العربي لفرانكو)، والذي كان الديكتاتور يقدره بشكل كبير". وعلى الرغم من هذا إلا أن السبب وراء إصدار فرانكو في 1965 قانونا لإلغاء معاشات أرامل إفني الذين خدموا إسبانيا، باستثناء الذين كانوا أبطالا معترف بهم في الحرب أو من مصابيها وقتلاها، ظل مجهولا ليتركهن في النهاية بدون حماية لتتلاعب بهم تقلبات الأزمنة. وتتحرك هؤلاء الأرامل حاليا بدعم مجموعة من المحامين قضائيا حيث تم رفع أكثر من دعوى في ساحات القضاء بإسبانيا، وصلت إحداها للمحكمة الوطنية ومن المتوقع أن يتم قبولها، مع العلم بأنها دعوى فردية ولن يكون لها مردود جماعي كما هو متوقع. وتعتبر الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إسبانيا من أهم العقبات التي تواجه مطالب هؤلاء الأرامل إلا أن بالاسيوس يرى أنه "يجب أن تتم رواية قصة هؤلاء السيدات الآن، لا نسعى لأن يكون التاريخ هو صاحب الحكم على هؤلاء السيدات، بل نسعى لأن يحصلن على حقهن في الحياة". ومثلما حدث في أزمة الصحراء الغربية التي لا تزال بلا حل حتى الآن، فإن إسبانيا في 1969 عقب ضغوط من الأمم المتحة لإنهاء استعمار كل الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، رحلت عن إفني من الباب الخلفي، وبقي أبناء هذه المنطقة في أراضي لا تخص أحداوأمامهم ثلاثة شهور لتقرير إذا ما كانوا يرغبون في الانضمام لإسبانيا أو المغرب، وهي المهلة التي لم يعلم بها الكثير منهم. وتعتبر أهم أزمة بالنسبة لأهالي إفني هي غياب حماية الإسبان لهم ورفضهم من جانب المغرب، التي كانت تنظر لهم بازدراء بسبب وقوفهم مع فرانكو ودعمهم لإسبانيا، كما حدث في فترة المعارك بين عامي 1957 و1958 حينما حاولت المغرب الهجوم على المنطقة والسيطرة على المدينة التي وقف سكانها بجانب الإسبان، على الرغم من أنه تم نزع السلاح منهم حتى لا يهاجموا أشقائهم، وذلك وفقا للرواية الغربية. يقول بالاسيوس "عقب رحيل الإسبان، بدأ الانتقام وبموجب عقوبات أصدرها ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، جرى تعذيب الكثير من أهالي إفني وتم استبعادهم من قبل المغاربة الذين أقاموا في المدنية واستولوا على كافة أنواع الأعمال، وتم استغلال كل مصادرهم وإخراجها من المدينة، لتتحول من بؤرة للتنمية الاقتصادية لمجتمع طريد". ويمتد التوتر بين سيدي إفني والمغرب إلى أيامنا، حيث وقعت في 2008 مواجهات قوية حينما قام بعض أهالي المدينة برفع العلم الإسباني وتعرضوا للهجوم من قبل مغاربة، وحينها تم الإبلاغ عن وقوع انتهاكات ضخمة لحقوق الإنسان.