من المؤكد أن ما أحدثته ثورة يناير من تغيرات إيجابية في طبيعة الشخصية المصرية، وتحولها من الاستسلام والإذعان إلى التمرد والرفض، تزامن أيضا مع شيوع ظاهرة العنف، الذي لم يكن جزءًا بارزا في وسائل تعبير الفرد المصري عن رفض الآخر. لكن ما حدث في أعقاب الثورة وما تلاه من أحداث دامية، أفرز عنفا إجباريا صرنا نراه ونسمع عنه كما لو أنه حدثا عاديا لم يعد يستوقف أحدا. ولا يمكننا القول أن بركان العنف الذي انفجر قد يكون فجأة بين ليلة وضحاها، بقدر ما هو مخزون عبر أعوام من الكبت، ومن الصدامات التي قامت بين الشرطة والشعب في أثناء حكم مبارك. بل لعل هذا العنف هو من ضمن أسباب قيام الثورة هي حالات التعذيب التي تعرض لها شباب ماتوا تحت وطأة التعذيب في أقسام الشرطة، ومن أشهرهم خالد سعيد ابن الاسكندرية الذي كان موته من الأحداث التي أججت ذروة الغضب بين الشباب ودفعتهم للقيام بثورتهم، بل إن موت خالد سعيد رأى فيه البعض حدثا معادلا لانتحار البوعزيزي في تونس‘ والذي أدى انتحاره لقيام الثورة التونسية. العنف المقصود او الملاحظ انتشاره في الشارع المصري ليس الذي جاء كرد فعل على الظلم، بقدر وجود حالة من الغليان القابلة للإنفجار والتحول إلى حدث عنيف يذهب ضحيته عشرات الأبرياء، من دون الحصول على نتائج توازي ما يقع من خسائر جسدية ونفسية، ومادية. يمكن القول أن أعمال العنف في مصر تخطت الخيال ووصلت إلى أماكن غير متوقعة، فتحول ملعب كرة قدم في بور سعيد- في شهر فبراير الماضي - إلى منطقة حرب، حيث قُتل أكثر من 72 شخصًا في أعمال شغب عقب مباراة بين الفريق المضيف "المصري"، و"الأهلي" من القاهرة. وإذا كان هذا الحدث بما فيه من دلالات سيئة، يثبت استشراء ظاهرة العنف - أيا كانت هوية وتوجهات الفاعل السياسية؛ لأنه في النتيجة مصري الهوية واختار مدفوعا أو عن قناعة الاشتراك في عمل عنفي - فإن توقيت صدور الأحكام في قضية مجزرة بورسعيد تزامن مع اليوم التالي للذكرى السنوية الثانية للثورة والتي كان من المتوقع فيها حدوث مزيد من الاحتجاجات وتفاقم الانقسامات في البلاد. لذا يأتي اختيار هذا التوقيت تحديدا لإعلان الاحكام محملا بالتباس وتساؤل حول مدى الوعي السياسي المتوفر والراغب في تقليص ظاهرة العنف! وما إذ كان من المقصود اختيار هذا التوقيت لزج البلد في أتون حرب أهلية قادرة على ايقاع مزيد من الخراب، لو استمر الحال على ما هو عليه. فبعد صدور الأحكام، وبعد قررات الرئيس مرسي بشأن حظر التجول، وما رافقها من قرارات أخرى، تبدو الصورة للمراقب أن مدن القناة تجد نفسها في موقف دفاع عن النفس، ليس لأنها رفضت الأحكام القضائية التي صدرت بحق أبنائها وحسب، بل لأنه تم تحويلها إلى كتلة لهب تصدر النيران، وهي ليست كذلك. دائرة العنف اتسعت لتمتد إلى المحافظات، ولتستقر في بور سعيد، ولا ندري إلى أين ستكمل طريقها؟! حيث بؤرة الأحداث الآن لم تعد ميدان التحرير فقط، ولا محيط قصر الاتحادية، فهل كان الأمر حقا بعيدا عن القصد ومجرد سوء تقدير سياسي، أدى لتفجير الاضطرابات في بور سعيد! ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن مظاهرات ذكرى الثورة كان من المتوقع حدوثها، لكن ما لم يكن متوقعا هو تزامن الإعلان عن الأحكام مع مرور عامين على الثورة، حيث تقف مصر الآن في مواجهات مفتوحة بين جميع الأطراف، في حين أن الخسائر تقع على عاتق طرف واحد فقط هو الشعب الذي يعاني من غلاء الأسعار، ومازال يشكو كما في العهد السابق من البطالة، والفقر، والجوع، وعدم توفر العلاج، وغياب فرص التنمية الحقيقية. فالشعب وحده يدفع فاتورة غياب الأمن، والاضطرابات السياسية، وخسائر البورصة. هذا الشعب والمحتقن، والغاضب، والذي لا يلاقي إلا وعودا وهمية بحياة أفضل، فمن الطبيعي أن يجد في ظاهرة العنف متنفسا له يعبر من خلالها عن غضبه، بعد تأكده أن كل الآمال التي علقها على العهد الجديد ليست إلا سرابا. د. لنا عبد الرحمن [email protected] ميدل ايست أونلاين