يوشك السودان أن يدخل مرحلة حرجة من تاريخه السياسي، بالرغم من الصعاب والمراحل الحرجة التي مر بها في السابق. وتتمثل هذه المرحلة الجديدة بالاحتمال المتزايد لإعلان جنوب السودان كدولة مستقلة عقب الانتخابات المزمع عقدها في التاسع من يناير المقبل. ولا يعرف بالضبط المسمى الجديد لتلك الدولة الجديدة التي قد تسمى (أزانيا)، أو جمهورية جنوب السودان الديموقراطية، أو غيرها من المسميات. غير أن حدوث هذا الانفصال سيلقي بتبعات جسام على السودان نفسه وعلى بقية الدول العربية، خاصة مصر. وقد اتفق الجانبان الشمالي والجنوبي في اتفاقية نيفاشا لعام 2005م على وقف إطلاق النار في الجنوب، وإجراء انتخابات لتقرير المصير في السودان عام 2011م، وإشراك قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكومة الاتحادية بالخرطوم، وكذلك مداورة مقر العاصمة بين الخرطوم وجوبا. وبالفعل تم تطبيق معظم هذه البنود إلا أن الحكومة السودانية أبقت حوالي خمسة عشر ألف جندي من جيشها في جنوب السودان، وهو ما أزعج قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأصروا على سحب تلك القوات عام 2007م حتى استجابت الحكومة الفدرالية لطلبهم. وقد يتعجب الكثيرون كيف قبلت الحكومة السودانية قبل ستة أعوام بمثل تلك الاتفاقية، التي قد تقود إلى انفصال حوالي ثلث أراضي البلاد من دولة السودان الديموقراطية. ويبدو أن الضغوط السياسية الهائلة التي مورست على الحكومة الفدرالية حينها هي التي حتمت قبول مثل هذا الشرط. غير أن بعض الإخوة السودانيين قالوا يومها إن هذا الصراع الذي أنهك السودان وحكوماته المختلفة واقتصاده، وأزهق الكثير من الأنفس قد آن أن توضع نهاية له. وأن مثل تلك النهاية، وإن كانت مؤلمة، فإنها واقعية وتنهي معاناة السودان منذ استقلاله عام 1956م، وحتى الوقت الحاضر. هذه المدرسة والتي تقبلت في الماضي اتفاقية نيفاشا، هي نفسها المدرسة التي تقول بأن السودان مكون من العديد من القبائل والأنحاء التي وجدت نفسها في دولة واحدة بعد الاستقلال. وتحاول اليوم أن تعيد تشكيل السودان الحديث بشكل يختلف كثيرا عن ماضيه منذ الاستقلال وحتى الوقت الحاضر. مقابل هذه المدرسة السودانية، هناك مدرسة عربية أخرى تجد أن انفصال السودان، ذلك القطر الذي تبلغ مساحته مليون ميل مربع، يمثل سابقة خطيرة لانفراط عقد الدولة العربية المعاصرة. وهذا يعني أن انفصال السودان إلى دولتين، قد يتبعه انفصال العراق وتفككه والقبول بذلك من قبل الدول العربية. وأن هذا المرض قد ينتقل إلى بلدان أخرى تعاني من احتلال أو أزمات سياسية. ولن تتأثر السودان فقط من هذا الانفصال، بل ستتأثر مصر أيضا، بحكم أن جنوب السودان يمثل رافدا لنهر النيل. كما أن قناة (جونجلي) والتي تقع في جنوب السودان، والتحفظات التي تبديها على إنشائها الجبهة الشعبية لتحرير السودان تؤثر حتما في السياسة المصرية، وتوجهها نحو جنوب السودان والتغيرات المستقبلية فيه. لذلك، فإن مسألة انفصال الجنوب، إذا ما تقررت، فإنها ستخلق إشكالية عميقة وتحدّيا حقيقيا للدبلوماسية المصرية، خاصة في وقت تواجه مصر إشكالات مع بعض بلدان حوض النيل. وبالنسبة لبقية الدول العربية، فستبقى مسألة الاعتراف بالدولة المستقبلية في الجنوب أمرا يحتاج إلى الكثير من الدراسة والتأني قبل إصدار الرأي. فالدبلوماسية المصرية ستحاول التعامل مع المنطق الجديد لقيام دولة جديدة تؤثر بشكل مباشر في انسياب مياه النهر نحو دولة المصب. أما السودان فهناك عوامل أخرى متعددة تحكم اعترافه بالدولة الجديدة من عدمه، خاصة في موضوع ترسيم الحدود حول إقليم أبيي المتنازع حوله. وهنا يبرز سؤال: هل سيرتبط موضوع اعتراف الدول العربية بالموقف السوداني، أم بالموقف المصري، خاصة إذا كان هناك تباين بين الموقفين. فمن ناحية هناك كما ذكرنا مدرسة ترى في هذا الانفصال إشكالية للنظام السياسي العربي برمته، كما أن هناك مدرسة واقعية أخرى لا ترى أن معارضة مثل هذه التطورات، خاصة إذا ما قبلت بها الخرطوم، أمر يمكن إرجاؤه، بل تدعو بدلا من ذلك إلى مد جسور التعاون مع هذا الكيان السياسي الجديد والتعامل بواقعية معه، خشية أن تستغل أطراف أخرى الغياب العربي المرتقب. ولا شك أن توترا عميقا سيحكم عملية الاعتراف والتعامل مع مثل هذه الدولة الجديدة. أ. د. صالح عبدالرحمن المانع عكاظ السعودية