المدرسة التفكيكية تمكنت بغض النظر عن أخطائها وعن جدارة من فتح أفق الوعي بالهوامش المهملة في الواقع الثقافي العام, بقلم: سماح عبدالله الفرّان لا وجود لنص أدبي مبتور عن محيطه لا وجود لنص أدبي مبتور عن محيطه، أو منفلت من خيوطه المحركة لنسيجه اللغوي والفني والإنساني، والتي ينسجها المجتمع لتكون مواد ممكنة لحياكة النص وتشكيله، وبالتالي فأصحاب الصنعة النقدية مدينون باستنطاق ذلك المحيط وإخراجه من خلف السطور بعيداً عن الصورة التي فرضتها المدرسة البنيوية على العملية النقدية نحو قرن كامل، منذ "دو سوسير" ومقولاته المطروحة في كتابه "علم اللغة العام" 1913. تلك الأطروحات المقننة للظواهر النصية داخل إطارها اللغوي البحت، والتي ظلّت تؤدي مهمة الصبّ في القوالب الجاهزة مما حدّ من حركة النص وبالتالي فاعلية الثقافة المبثوثة فيه، ظل الأمر كذلك حتى طرأ على الصورة البنيوية تعديل مهم تمثل فيما طرحه "لوسيان جولدمان" 1970 تحت مسمّى "البنيوية التكوينية" أو "البنيوية التوليدية" التي تتعامل مع النص الأدبي باعتباره بنية لغوية تعكس بنية اجتماعية، مما جعلها الصورة البنيوية الأقرب إلى محاكاة الواقع الاجتماعي وملامسته. لكنها تظل صورة غير متقبلة لمرحلة ما بعد البنيوية لعجزها عن تشكيل الأنساق الثقافية المطمورة في عمق النص، والتي كانت حاجة ملحة تتجاوب مع التغيرات الطارئة على واقع الثقافة العربية، والتي تتطلب تغييراً بالمقابل في العملية النقدية، بعيداً عن قولبة النص الأدبي ضمن إطار نقدي صارم . بظهور "التفكيكية" التي جاء بها "جاك دريدا" في كتاباته المبكرة سنة 1967 تم دحض وحدة النص وانغلاقيته المزعومة، إذ كان يبحث في تلك الكتابات عن العوالم المختبئة في النص، أو المسكوت عنها، متجاوزاً الدور الوصفي الشكلي للبنيوية حيال النصية المطروحة. إذ أبدل بهذا الدور التفكيك المرتبط باستجواب النصوص، وتقويض سلطة المعنى الجامد، وفتح الأفق للقراءة الحرّة المتشظية مع تشظي المعاني، ذلك التشظي الذي يرى أنه السبب في استحالة الوصول إلى تحليل نهائي للنص، مما جعله يطرح مقولته المشهورة "لا شيء خارج النص" التي يعدّها الناقد الأميركي "ليتش" البرتوكول للنقد الثقافي الما بعد بنيوي . وقد تمكنت المدرسة التفكيكية بغض النظر عن أخطائها وعن جدارة من فتح أفق الوعي بالهوامش المهملة في الواقع الثقافي العام المعيش وبالتالي المكتوب، أي الواقع الأنثوي القابع في الهامش الثقافي، والذي أبقى الواقع الذكوري مستأثراً على متنه . تأتي القراءة الثقافية باعتبارها الأكثر إنصافاً للعملية الإبداعية لتكشف لنا المطمور خلف السطور، محاولة انتزاع الحق لمن همشهم الواقع الثقافي بصورتيه: الإبداعية والنقدية . كانت القراءة الثقافية كذلك بانفلاتها من صرامة القانون، وجمود المرتكزات الفنية؛ محركة الثابت الثقافي الذي استقر فترة طويلة في الوعي الإنساني، محرضة على إحداث ثورة على ذلك الثابت على رأسه السلطة الذكورية السائدة . إن استنطاق النص يعين على فهم المحيط الاجتماعي والثقافي المطروح، يتعمّق فيه ليحكي لنا خصوصيات أراد النص بثها في سطوره، في حين التعاطي مع الصورة المحددة مسبقاً، أو الجاهزية الصرفة لم تعد تؤتِ أُكلها في ظل التحركات الثقافية المتجددة في الوعي الإنساني عامة. وهنا نستدعي مقولة أمين الخولي الشهيرة "إن البلاغة نضجت حتى احترقت" ليأتي على نسقها الدكتور الغذامي ليؤكّد أن النقد الأدبي نضج هو أيضاً حتى احترق، ولم يعد النقد الأدبي بلغويته الصرفة قادراً على الخروج عن دائرة نفسه أو الإتيان بجديد في ظل الانسداد المعرفي الذي أحدثته المواظبة المتكررة للنظريات النقدية، والتي فقدت بفعل كثرة الاستخدام قدرتها على إحداث نقلة نوعية في العملية النقدية، مقابل الكم الهائل الذي تعجّ به المكتبة العربية بذلك النوع من الدراسات. ولسنا بصدد الدعوة إلى موت النقد الأدبي كما ذهب الدكتور الغذّامي، لأننا لا ننكر الصلة القائمة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، وإن الدعوة إلى موت النقد الأدبي يبتر تلك الصلة، ويضع الناقد الثقافي في حرج في حال إذا استعار بعض أدوات النقد الأدبي أو استدعاها. بينما الانصراف البحت إلى ما يخبئه النص من جماليات لغوية صار من الممارسات النمطية التي تحرق ثقافة النص في محارق اللغة . فمن يهتم الآن بسجع الكلمات أو ترادفها أو توريتها ..؟ وماذا يعني أن نرصد ظواهر لغوية مبتورة عن مدلولها الثقافي لتصبح صمّاء وبكماء لا تجيد الحديث عن نفسها؟ لا يعني ذلك أننا نرفض هذه العملية رفضاً قاطعاً .. أو نتجنّى على ما من شأنه رصد تحركات اللغة وتطورها واختلاف استعمالاتها، ولكننا بحاجة ملحّة إلى مواكبة الحالة الثقافية واستنطاقها بالنبش عنها بمعاول السؤال لا التسجيل والرصد، ونبحث عمّا من شأنه الإفصاح عن الأنساق الثقافية الخاصة أو الأكثر خصوصية لمجتمع ما أو فئة معينة يلتقي أفرادها تحت حالات ثقافية مشتركة. إن مخرجات النص في ظل القراءة الثقافية، تختلف اختلافاً واضحاً عن مخرجات القراءة اللغوية وحتى الأدبية، إذ أنها بالإضافة إلى اهتمامها باللغة وجمالياتها تُعلي من شأن النص نفسه، بالإضافة إلى مكوناته، حيث أصبح النسق الثقافي المختبئ خلف السطور هو الظفر الحقيقي للناقد الثقافي، يحدد من خلاله الصورة المشكلة لوعي الفرد داخل مجتمعه، وطبيعة القوانين المحتكم إليها ذلك المجتمع، ومدى تأثيرها على الوعي الجمعي المشترك . ليس هناك أبلغ من ثنائية الذكورة والأنوثة للاحتكام إليها في خلق الشواهد الاجتماعية المطلوبة. فمن خلال العلاقة القائمة بينهما، وطبيعة تحركات كُلٍّ منهما داخل محيطه، وما يصدر عنهما من أحكام ومقولات وتوجهات، تتم عملية رصد الحالات الثقافية الخاصة والأكثر خصوصية للمجتمع موضوع النص . لقد أحدثت المجتمعات الأبوية الذكورية السلطوية عملية اختلال في تصنيف تلك الثنائية، والتي انتهت إلى تصدّر الذكر المتن الاجتماعي، بينما زُجّ بالأنثى في الهامش؛ الأمر الذي جعل الأنثى تبحث عن وسائل لجعل العلاقة بينها وبين الذكر علاقة أفقية متساوية لا عمودية تفاضلية، كما يجب لها أن تكون. فكانت الفكرة تمرداً في حد ذاتها، لتتعدد بعدها صور أخرى للتمرّد، كالتمرّد الفعلي والمكتوب، والقفز الدؤوب على ممكنات التفضيل الاجتماعي، بل أحياناً الوصول إلى تفضيل الأنوثة على الذكورة رداً على الفترة الزمنية الطويلة التي قبعت فيها الأنثى في الهامش . كل تلك التحركات والأحكام الموجهة جعلت إنتاج الأنثى يختلف تماماً عن إنتاج الذكر، ويضعها في دائرة الثورة ضد الثابت المنتقص من القيمة الثقافية للدال الأنثوي. فتأتي القراءة الثقافية لإيجاد ذلك الاختلاف وإبراز النوعية في الأدب، فكان الأدب الذكوري والأدب الأنثوي أو النسْوي، ولا يعني ذلك المفاضلة أو الانقسام التكويني الإنساني في مجال الفكر عامة، بل على سبيل الرصد الثقافي لمخرجات النص، وحشد قدر كبير من الظواهر الثقافية التي تسببت في خلق الفجوة بين الذكورة والأنوثة، ومحاولة تضييق تلك الفجوة من خلال ما يصدر من كتابات داعية لذلك، ما كانت تلك الدعوات أن تتكرّس بعيداً عن القراءة الثقافية التي تختلف في عملية رصدها باختلاف ثقافة الذكر وثقافة الأنثى.