كانت المطالب الأساسية للتنظيمات السياسية الإقليمية كمؤتمر البجا واتحاد جبال النوبة ونهضة دارفور فضلاً عن الأحزاب الجنوبية العريقة تتمثل في الحكم الفدرالي وتحقيق قدر من التنمية المتوازنة والاهتمام بالتعليم بالمناطق الأقل نمواً باعتبار أن التنمية البشرية هي عماد كل نهضة حضارية للأمم المتطلعة لغد أكثر إشراقاً . . ولم توفق الحكومات الوطنية المتعاقبة في إرساء قواعد متينة للحكم اللا مركزي إلى أن جاءت حكومة الإنقاذ فبشر مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السلام في أكتوبر 1989م، بالحكم الفدرالي واحترام خصوصيات الأقاليم بإعطاء الولايات قدراً من المرونة في التشريع لاسيما مبدأ إعطاء الولايات الحق في استثناء نفسها من القوانين ذات الصبغة الدينية (قوانين الشريعة الإسلامية) . وظل الحكم الفدرالي حبراً على ورق طوال حكم الإنقاذ رغم التوسع الكبير في عدد الولايات وتقسم الأقاليم أو المديرات التسع السابقة إلى أكثر من خمسة وعشرين ولاية، حيث حذر المختصون من كلفة الحكم الفدرالي في ظل الموارد الشحيحة لمعظم أقاليم البلاد. . ثم جاءت اتفاقية السلام الشامل لتتقدم بخطوات أكثر كلفة في تطبيق الفدرالية والاتجاه نحو الكونفدرالية من خلال تكوين حكومة مستقلة للجنوب وإنشاء مجالس تشريعية ووضع دساتير تحكم الولايات الأمر الذي فاقم من الاعتماد على خزينة الدولة وضاعف من حجم الإنفاق الحكومي وأثقل كاهل المواطنين بأعباء إضافية من خلال الجبايات المتكررة للضرائب والجمارك والرسوم ما بين السلطات المتضاربة بالمركز والولايات، وقد أكسبت انتخابات العامة الماضية للولاة والمجالس التشريعية الشرعية الدستورية للنظام الفدرالي القائم على علاته . ولا شك أن تحقيق التنمية والتقدم في الولايات مرهون بقدرة الحكومات الولائية على الالتزام بقدر عال من التقشف الصارم في المصروفات الحكومية وتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة الدقيقة للأجهزة الحكومية وشركات القطاع الخاص المتعاقد معها لتنفيذ برامج تنمية البنية التحتية كالطرق والأرصفة ومد شبكات المياه والكهرباء في المدن والقرى . . كما يتعين الحد من الاحتكار والتدخلات الحكومية المباشرة في الأنشطة الاقتصادية الأمر الذي خلق تشوهات عدة في الاقتصاد وهبط بالإنتاج الزراعي والصناعي إلى الحضيض وأدى لارتفاع جنوني في أسعار السلع والخدمات في السودان بالمقارنة بدول الجوار العربي والأفريقي . والمأمول من المجالس التشريعية المنتخبة بالولايات أن ترقى إلى مستوى التحديات وتعمل على معالجة التشوهات الاقتصادية وفق تشريعات مدروسة تمنع الاحتكار وتقنن تدخل حكومة الولاية في النشاط الاقتصادي وتفتح آفاق العمل وجذب الاستثمار الزراعي والتجاري والصناعي وفق آليات السوق الحر . . فنواب المجالس التشريعية بالولايات أمام اختبار حقيقي بين الولاء للناخب السوداني والولاء للسلطة . . ولعل الأمر يتطلب سقف معرفي أبعد مما تدفع به المطامح الآنية الفردية والحزبية باستغلال الطبقة النافذة للسلطة خدمة لمصالحها الذاتية .