قناعة الكثيرين أن الحكمة والعلم يُكتسبا من طريق واحدة، وهي الدرس و مطالعة الكتب و حضور حلقات العلم و الانتظام في ذلك و أشباهه، وهي قناعة غطت جانباً غير يسير من الحقيقة، ولكنها أهملت جوانب أخرى و تناست مدارس مهمة لاكتساب الحكمة والعلم، ومن هذه المدارس مدرسة بالغة الأهمية و هي مدرسة الحياة، فالكسب الذي يتراكم عند أولئك الطيبين من شيوخٍ و نساء في بيوتنا لا يُقارن بأيَّ كسب قد نأخذه عن أي كتاب، فهؤلاء الأشياخ والكبار يحملون عمراً من التجارب الحياتية المتراكمة وعلماً مجرباً ليس كالنظري الذي عرفناه ونريد تجربته، ولكن السؤال : هل استفدنا منهم؟، دعك عنهم وتعال وانظر الى المسرح السياسي و التعليمي والثقافي و غيرهم، هل تمت الاستفادة من أهل الخبرات والتجارب فيها؟، أخشى أن تكون الاجابة:لا لم تتم الاستفادة. فللأسف بعضنا ينفق السنوات الطوال من «أعمارنا» في الصراع لازاحة الأجيال القديمة واحلال الأجيال البديلة لكي تبدأ الأجيال التي بعدها الصراع!، فلم نحظ بخبرات الكبار وأهل التجربة و أزهقنا شبابنا في مسعى ابدالهم و أرهقناهم وبدلاً من أن تكون طاقتنا في ترتيب شأن الوطن معاً أضحت في فانية حرب البقاء!. قناعتي تقول اننا كأمة كُنا نستفيد من سابقينا ولكننا لم نعد نفعل!، كنا نستفيد من تلك المدارس ومن ذلك الجيل ولكننا لم نعد نفعل، لا أدري كيف أتوسل الوصول لهذه الحقيقة ولكني أدركها من شواهد ومعطيات بدت تبرز هنا وهنا أفان كنت مخطئاً فذاك خير وان كنت مصيبا فيجب الانتباه، اذ هي ظاهرة طارئة علينا، فتراكم التراث السوداني يدلنا على أن دورة الأجيال كانت دائماً تمضي بسلاسة و أن ذلك كان يتم بمثالية، فالعادات تنتقل وتترقى بما يناسب الزمان وكنا نحس بأن ذلك يتم وفقاً لمعايير سودانية موجودة في جيناتنا في اللاوعي أو الوعي المُغَيَّب تُنَقي العادات و تكسبها أبعاداً زمانية ملائمة، كان الانتقال من حالة الى حالة مهما كان حاداً الا أنه يحتفظ بكينونتنا الفريدة، و لكن لوهلة بت أظن أن السودان أصبح يعيش صراعاً داخلياً مضنياً، وأن سلاسة الانتقال بدأت تنتفي وأن تلك الكينونة المقصودة أُخفيت أو أُذيبت أو أبعدت بشكل أو بآخر، ربما يكون ذلك منطقيا الى حد ما، فقد تداخلت مُشَكِلات الوعي الجديد، واستَعَرت حروب الأيدلوجيات و صراع الأفكار وصراعات المبادئ الجديدة، تزامن ذلك مع تغيرات العالم، وتعدد هذا مع مصادر المعرفة الجديدة، أزعم بأن هذه الأمور بدأت أو كادت تنخر «سودانيتنا» التي نحب وتلك التي تميزنا، بدأت هذه الأمور تأكل من «أخلاق السودان»، فنحن لم نعد نصغِ لحكمائنا وكبارنا، لم نعد نحمل الصفات القديمة وأخشى أننا نحتاج لاعادة «سودنة» قيمنا، لاعادة انتاج شيوخ البركة والصلاح لاعادة انتاج مثقفين حقيقيين وعلماء، فهؤلاء لا يأتون من مدارس الكتاب و لا من الحلقات فقط، بل يأتون منها ومن مدارس الحياة ، من المجتمع المتصالح الذي كنا نحظى به، المجتمع الفاضل الذي صاغنا أخلاقاً وقيماً ..ذاك الذي نقله لنا التاريخ، و وجدنا أثره عند الأمم. لم أعش الماضي ولكن أرى انعكاساته في الأجيال التي استقت السودان من الأجيال السابقة، كان الصدق و النبل والوفاء، لم ينتف ذلك الآن ولكن جاءت مفاهيم جديدة، دخلت جرائم دخيلة، انتشرت المخدرات تكررت حوادث الاعتداءات، تفاقمت الجريمة، ازداد التفكك الأسري وهنت العلاقات الاجتماعية الشخصية انمحت بعض الملامح السمحة ازداد التعنصر، ظهر الغلو والتطرف والارهاب وكل ذلك ليس بمعدلات طبيعية ولكنه بمعدلات تدق ناقوس الخطر وتحذر!. ليس هذا فقط ما استفز هذا المقال، فكل هذه المشاكل تحتاج لدراسة مجتمعية وحتماً سنستطيع صدها متى ما خرجنا من مآزق السياسة وتفرَّغنا لبناء السودان والاهتمام بالمؤثرات الحقيقية، ولكن ما هزني هو ما نفقده حينما نتخلى عن موروثاتنا وقيمنا، اننا لا نفقد المبادئ فحسب وحتى ان فعلنا فاننا نستطيع توليد مبادئ جديدة، لكن المصيبة أننا نفقد الأهداف نفقد النهايات، فنصبح نسعى لاهثين بلا هدف، وهذا مرض آخر أصابنا واستشرى، فان جو الصراع ومناخ التنافس جعل العالم اليوم يفعل الأشياء من أجل البقاء، فالحاكم يحكم من أجل الحكم و المعارض يعارض من أجل المعارضة، و الباحث يبحث من أجل أن يكون باحثاً أو من أجل الترقية فنتيجة بحثه ونهايته هي البحث، و التاجر يكسب من أجل الكسب، والكاتب يكتب من أجل الكتابة لا من أجل قيمتها واحداث التغيير المطلوب، اننا نفتقد لجواب لم نعد نسأله: ثم ماذا؟ ثم ماذا بعد أن تحكم ؟ ثم ماذا بعد أن تعارض؟ ثم ماذا بعد أن تبحث؟ ثم ماذا بعد أن تكتب؟ أين هي الأهداف، الى أين نريد أن نصل؟. الظواهر المرضية العرضية منها واللازمة موجودة في كل المجتمعات و هي طبيعية الى الحد البعيد، فمن الطبيعي أن توجد في السودان، ولكن المصيبة أن ننتبه لها بعد فوات الأوان، والمصيبة ان يتوه توصيفها عنا، لسنا ضد التطور الطبيعي والنسق المطرد للحياة ومتلاحقات الفكر والمعاش، ولكننا ضد الثورة على العادات والموروثات وعلى القديم بكل نسقه والادبار عنه بكليّة والاقبال الى غيره، نحن ضد تغيير قيم المجتمع وانتزاع سودانيته والباسه عباءةً ليس له، ضد تغذية المجتمع بمضامين دخيلة وزرع بذور جديدة لا تشبه السودان أيّاً كان لونها أو أصلها. أعيدوا لنا تصوفنا، أعيدوا لنا حولياتنا و أعيادنا أعيدوا لنا ابتساماتنا، خذو عنا قرون التطرف و التشدد والمغالاة، أعيدوا لنا التسامح وخذوا عنا التعصب، ان التطرف والنزوع الى العنف والايمان بهما كمبدأ أكبر خطراً بكثير من ممارستهما، وهذا ما بدأ ينتشر، وهذا ما بدأ يستشري، وليس هو الا واحد من ظواهر تترى بدأت تظهر لأن البعض لا يزال يحاول اعادة صياغة المجتمع، بالرغم من أن اكتظاظ المحيط بالأيدلوجيات المتنافرة جعلها غير ذات جدوى و أحالها الى لافتات لا تحمل مضموناً وأفقدها الغايات، الا أن ذلك يجعل الأرض خصبةً للانحراف الفكري والعنف المؤدلج ونموه، فانتبهوا أيها السادة .