في المقال السابق أبديت دهشتي من الذين يقرعون الطبول ويشحذون النصال الحادة لقطع رأس نيفاشا والنيل من مفاوضيها، وقلت إن هذا التوثب والتدافع الذى يريد رأس نيفاشا وربما رؤوس مفاوضيها، جعل كثيراً من الاسئلة الحائرة تطوف برأسى: أهى مراجعة سياسية وصحوة ضمير استنام طويلاً، أم تصفية حسابات لاحتقان متراكم يتوارى خلف هذا المسعى المحموم؟ احتقان وخلافات سياسية لا يعنيها انفصال الجنوب من قريب أو بعيد، ولكنها تسعى لتوظيف الأمر واستثماره فى صراعات السلطة وتصفية الحسابات. ومضيت الى القول إن نيفاشا لم تكن رهاناً على الانفصال بقدر ما كانت الوحدة هى الامل المرجو فى أعين المفاوضين. وأن نيفاشا إن نسينا لم تكن اجتهاداً فردياً بقدر ما كانت توجهاً رسمياً وقومياً جامعاً اصطفت لمؤازرة خطوطه العريضة كافة القوى السياسية.. حاكمة ومعارضة. وأن أزمة الجنوب ظلت تقتات على إخفاقنا السياسى المستمر منذ عهد الاستعمار الى عهد الانقاذ . ومضيت اتساءل.. إذاً فيم التسارع الى نصب أعواد المشانق لنيفاشا ومفاوضيها؟ وفيم يتعجل حاطبو الليل من بعض قوى المعارضة وحتى من بعض المقربين من دوائر الحكم لمداراة تربصهم وهم يتوارون وراء لافتات الإدانة والتبخيس؟! كذلك قلت إن مؤتمر جوبا «1947م» كان أول اختبار للثقة بين الشمال والجنوب، وهو أيضاً للأسف أول فرصة مضاعة فى بناء هذه الثقة وتوطيدها. ولعلنا نلمس هذا ونحن نرى القاضى الجليل السيد محمد صالح الشنقيطى الذى لعب دوراً مؤثراً فى إقناع ممثلى الجنوب فى ذاك المؤتمر بخيار الانتماء للسودان الموحد مقابل وعد بتفهم أهل الشمال لمطلبهم المتمثل فى شكل من اشكال الحكم الذاتى .. نرى مولانا الشنقيطى بعد أن أصبح رئيساً للبرلمان فى 1958 ومعه كل النخب السياسية الشمالية يتنصلون من ذلك الوعد عند تأليف لجنة إعداد مسودة الدستور الدائم، وبهذا أصبح مطلب الجنوبيين الخاص بالنظام الفيدرالى أمراً غير مشروع، مما دفع ببعض الساسة الجنوبيين لدخول السجن فى آخر ذلك العام، أو مغادرة البلاد الى المنفى فى الدول المجاورة. ويرى بعض الدارسين من الأكاديميين ومن بينهم الباحث الدكتور بهاء الدين مكاوى «أن الوصول الى الاستقلال لم يكن ممهداً، بل جاء استقلال السودان بعد مخاض عسير، وكان قدر الوطنيين فى الخمسينيات من القرن الماضى أن يديروا معركتين فى آن واحد: معركة النضال ضد المستعمر لإجلائه من البلاد، ومعركة التصدى للمشكلات الناجمة عن سياسة الانجليز تجاه الجنوب التى بدت آثارها تطفو على السطح والسودان يخطو نحو الاستقلال». وربما لهذا السبب ولقلة الخبرة السياسية يومها، كان تعامل الحكومة الوطنية الاولى مع اندلاع التمرد فى 1955م تعاملاً تقليدياً وأمنياً بحتاً، لم يراع الابعاد السياسية والاجتماعية للمشكلة. وبحسب ما أورده د. بهاء الدين فإن التمرد كان عملاً مدبراً حين زوَّر أحد الكتبة الجنوبيينبجوبا برقية باسم رئيس الوزراء اسماعيل الازهرى يطلب فيها من الاداريين بالجنوب عدم الالتفات الى «شكاوى الجنوبيين الصبيانية» ويأمرهم باضطهاد الجنوبيين وإساءة معاملتهم. وتم توزيع هذه البرقية على نطاق واسع، وعُقد اجتماع ضمّ أعداداً كبيرة من الجنود الجنوبيين، وعُرضت عليهم البرقية المزورة، وأقسم المجتمعون على قتل كل الضباط الشماليين الذين يسيئون معاملتهم، وفى هذه الأثناء ونتيجة لهذه الشائعات قامت الفرقة الاستوائية فى توريت بتمردها الشهير فى أغسطس 1955م والذى راح ضحيته 261 شمالياً و75 جنوبياً. ولعله من المهم فى هذه النقطة أن نورد ما ذهب اليه اكاديميون آخرون من بينهم الانجليزى بيتر وودورد، حين قالوا بتورط الصاغ صلاح سالم ومن ورائه قيادة ثورة يوليو فى مصر فى إشعال فتيل التمرد، امتعاضاً من بوادر عدول الأزهري وحزبه الحاكم عن الوحدة مع مصر، وانسياقهم وراء التوجه الاستقلالي، وذلك بغية إحداث انهيار دستورى يعيد مصير السودان للمربع الاول. وحينها طلب الحاكم العام من الزعيم الأزهري حذف هذا الجزء من تقرير القاضي ميشيل قطران الذي كان يتولى التحقيق في أحداث التمرد في الجنوب، موضحاً أن الأمر سيجلب لحكومته المتاعب مع المصريين، وهذا الاستنتاج من تقرير القاضى قطران المتعلق بتقصي أسباب التمرد. لقد كان البذار الخبيث المسموم للسياسات الانجليزية الاستعمارية، إلى جانب المعالجات الخاطئة وذات الطابع التقليدي من قبل الحكومات الوطنية الاولى، هى أول إخفاقاتنا السياسية بشأن أزمة الجنوب، ثم توالت الاخفاقات تجر بعضها البعض إلى أن وصلنا الى الواقع المر للانفصال، ولكن بعض أصحاب الأجندة والمتطلعين لتصفية الحسابات السياسية فى يومنا هذا، يغمضون أعينهم عن قراءة التاريخ، وهم يسعون وراء رأس نيفاشا ورؤوس مفاوضيها كأنما هؤلاء المفاوضين هم من تسبب في كل هذا الاخفاق وبكل تلك الاوزار التاريخية المتراكمة. جاء الحكم العسكرى الأول بقيادة الفريق ابراهيم عبود فى 17 نوفمبر 1958 ليسكب مزيداً من الزيت على نار التمرد، فقد اعتمد الحل العسكرى الامنى باعتباره نهجاً أوحد للتعامل مع الأزمة، وراح يتبع سياسات «الأرض المحروقة» فى محاولة يائسة لاجتثاث التمرد ايذاناً ببدء مرحلة جديدة أكثر تفاقماً فى الصراع الشمالى الجنوبى.. مرحلة تقول بأن مشكلة الجنوب هى صنيعة استعمارية هدفت الى عزل الجنوب من الشمال، وأن المدخل الى حل المشكلة هو فرض الوحدة بين الشمال والجنوب بكل الوسائل المتاحة بما فيها سياسات القمع العسكرى، دون الالتفات إلى تطلعات الجنوبيين فى الحكم الذاتى. ولعل أبرز محطات تلك السياسة الغاشمة يمكن تلمسها فى النقاط التالية: فى فبراير 1960 قرر مجلس الوزراء اعتبار الجمعة يوم عطلة فى جنوب السودان بدلاً من الاحد بناءً على طلب من مدير المديرية الاستوائية السيد علي بلدو. وفى 1962 أصدر النظام العسكرى قانون الجمعيات التبشيرية الذى حدَّ من صلاحيات التبشير الكنسى فى الجنوب، وقيده بالحصول على تصريح من مجلس الوزراء. وفى مارس 1964م صدر قرار بطرد الجمعيات التبشيرية من الجنوب بدعوى أنها تشيع العدواة والكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وتدعو للانفصال. وبجانب هذه القرارات أصبح الجنوب مسرحاً كبيراً للعمل العسكرى دون بذل اى جهد للبحث عن مخرج سياسى، رغم أن فاتورة الحل لم تصل يومها الى سقف الانفصال. وعلى الجانب الآخر راحت النخب الجنوبية تستثمر هذه المعالجات الخاطئة فى كسب المتعاطفين والمساندين لقضيتهم، وهم يشرحون الظلم الذى حاق بهم من حكومة «العرب المسلمين» فى الشمال. واتخذت هذه النخب من دول الجوار فى يوغندا وكينيا والكنغو وافريقيا الوسطى مقراً لها ومنصة انطلاق لعملهم العسكرى ولخطابهم الاعلامى، وهم يستنجدون بالعالم الغربى بما فيه الفاتيكان وبريطانيا والولايات المتحدة والمانيا الغربية وحتى اسرائيل. وكان من نتاج هذا الدعم والتعاطف أن تأسس حزب سانو أشهر الاحزاب الجنوبية الذى قدم مذكرة فى مارس 1962 الى مؤتمر دول الاتحاد الافريقى تنادي بفصل الجنوب، قال فيها: «إن استقلال السودان بالنسبة للجنوب لا يعنى سوى تغيير السادة». كذلك قدم حزب سانو مذكرة أخرى فى مايو 62م الى الاممالمتحدة يطالب فيها باستقلال الجنوب بعد فشله فى الحصول على الفدرالية، مطالباً الاممالمتحدة بإرسال لجنة تحقيق لما يدور فى الجنوب. كذلك قام بعض العسكريين الجنوبيين بتأسيس «جيش تحرير الأرض» الذى أُطلق عليه فيما بعد اسم الانيانيا «اسم حشرة سامة بالجنوب»، وشهد عام 64م مواجهة عنيفة بين المتمردين والسلطة العسكرية، مما قاد الى تدهور الأوضاع فى الجنوب بشكل مريع، ومهد الاجواء لثورة أكتوبر 64م بعد أن استعدى النظام كل القوى السياسية والنقابات التى وجدت نفسها تقف متحدة فى خندق واحد فى مواجهته. هكذا إذن تتوالى فصول إخفاقاتنا السياسية .. تجر بعضها البعض كما قلنا، ورغم هذا تنهمر الحجارة من المقربين والخصوم.. الموالين والمعارضين ، وهى تريد رأس نيفاشا ورؤوس مفاوضيها. «نواصل الرحلة مع تراكم إخفاقنا السياسى فى المقال القادم». نقلاً عن صحيفة الصحافة 28/6/2011م