الذين وقفوا مع الانقاذ والذين وقفوا ضدها لا ينكرون ما قدمته في مجال التنمية الخدمية، إلا أن تنكر العين ضوء الشمس من رمد. وتشهد لذلك الطرق والجسور والسدود والمدارس والجامعات وغيرها. لكن الاشراقات لا تحجب الاخفاقات، ومن حق الانقاذ على الناس أن يبصروها بإخفاقاتها، ومن حق الناس على الانقاذ أن تستمع اليهم، خاصة بعد أن نصروها نصرا مؤزرا في الانتخابات الأخيرة التي مثلت تحديا كبيرا لكل الأمة. ومن أهم مواطن الاخفاقات الخدمة المدنية، فلم تفلح الانقاذ بكل ثوريتها في أن تصلح من شأنها. ولايزال الوصول المتأخر لمواقع العمل وساعة الفطور الطويلة الممتدة، والخروج الجماعي لتقديم واجب العزاء وعلى حافلات المؤسسات وفي أوقات العمل الرسمية، والخروج المبكر وترك مواقع العمل، والانشغال بالمحادثات المباشرة والهاتفية الخاصة، وعدم احترام وقت المواطن، وعدم الاهتمام بمعاناة الآخر، مازالت تمثل المظهر العام لمعظم مؤسسات الدولة المرتبطة بالجمهور. والشواهد على ذلك كثيرة، فالمواطن يجأر بالشكوى من المستشفيات العامة وحالة المرضى لا تسر لا عدو ولا صديق، والصفوف السلحفائية في كثير من المؤسسات مأساة أخرى، وإذا ذهبنا في ضرب الأمثلة فسنسود الصفحات الطويلة. فهذه اللا مبالاة وانعدام روح المسؤولية لا تتفق مع القيم الحضارية الدينية، ولا مع الاستراتيجية القومية التي تسعى لسودان متقدم متحضر متطور. فهل نعاني من ضعف التربية الوطنية أم ضعف التربية الدينية أم الاثنان معا. ولعل الإجابة الأخيرة هي الأرجح، والعلاج يبدأ بمعرفة الداء. واعتقد أن المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، يمكن أن تضطلع بأدوار مهمة في رفع مستوى التربية الدينية والوطنية. والأئمة في المساجد والعلماء يجب أن يركزوا على أن العمل من الدين، وأن العامل أو الموظف يؤثم ويؤجر على انضباطه، فمن أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل. ولا يكفي الانضباط في الحضور، وإنما لا بد من اتقان العمل . إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، فذلك من صريح الدين. والمعلم الذي يذهب للحج ويعود منه، ثم يتغيب عن حصصه لعمل الكرامة أو غيرها من مظاهر الاحتفال، يسئ للعبادة التي أداها، فلا هو أخفاها ولا هي دفعته للاهتمام بعمله الدنيوي الذي ساعده على أداء المنسك، ومن الذين يظلهم الله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه، وعلى ذلك قس. ويقول بعض العلماء إن من علامات قبول العمل الاستمرار في الطاعة. فهذه القيم الحضارية يجب الطرق عليها بقوة، وهذا عين المقولة «الإسلام دين ودولة». فالغرب للأسف يطبق هذه القيم وصنع بها معجزاته المادية، وخلق هذه الهوة العلمية الضخمة التي تفصلنا عنه، لأنه يقدس العمل، وتقوم تربيته الوطنية على ذلك، بينما نبتعد نحن عن معيننا الحضاري. فالتربية الوطنية أهم روافد الخدمة المدنية، وتمثل مع التربية الدينية الأساس للتقدم الحضاري المنشود. وقد كان للدفاع الشعبي وإعلامه المصاحب دور كبير في تزكية الروح الوطنية والدينية، لكن سرعان ما خمدت هذه الروح بعد انتفاء دواعي الحرب، لكنها تجربة جديرة بالدراسة والتأمل. وخروج فرقنا الرياضية الأربعة المشاركة في البطولات الافريقية الضارية جزء من هذا الاخفاق، وقبلها الفريق القومي، فلا اللياقة البدنية تسعفهم، ولا اللياقة الذهنية حاضرة، ولا النظم الإدارية الحديثة موجودة، بينما يحقق أبطال ألعاب القوى النجاح تلو الآخر، بسبب الانضباط التام الذي توفره المؤسسات العسكرية التي ينتمي إليها غالبيتهم. وسؤال هل كان للمؤسسة العسكرية دور في فوزنا الوحيد بكأس إفريقيا1970م بقيادة عبد الفتاح حمد رحمه الله في بدايات عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري رحمه الله؟ فالشللية والقبلية والجهوية من معاول الخدمة المدنية، فكثير من التعيينات والترقيات والحوافز تتم عبر هذه المعاول، مما يترك آثارا سالبة على الخدمة المدنية، بسبب عدم اختيار القوي الأمين، والأمثلة والشواهد لا حصر لها. لقد آن للانقاذ أن تلتفت للخدمة المدنية، وتضع من الضوابط والقوانين والأخلاق ما يصلح من شأن هذه المؤسسات، إن كانت فعلا تريد أن تحقق توجهها الحضاري واستراتيجيتها القومية، فالتنمية البشرية أهم بكثير من التنمية الخدمية، لأن الأولى تصنع الثانية. لكن يجب تحسين وضع الموظف والعامل، برفع المرتبات وتقديم القروض الحسنة وتحسين شروط العمل، لغلق الباب أمام كل أنواع الأعذار، فواحد من أهم التحديات القادمة النهوض بالخدمة المدنية.