ما أن قرأت فى الأخبار خبراً عن تكوين لجنة جديدة واستراتيجية جديدة تسوِّق لها الحكومة من أجل حل أزمة دارفور، حتى تّذكرت المقبورة استراتيجية العودة الطوعية والحديث الذى سمعته من أحد أولئك الذين شهدوا احدى مسرحياتها وسأورد شهادته فى متن هذا المقال ، تلك الاستراتيجية التى صحبتها ضجةٌ اعلامية ضخمة و « قومة وقعده » وما صاحبها من قبض للريح حتى أضحى مصطلح العودة الطوعية من أكبر مثيرات استفزاز النازحين ، وحُق لنا أن نتساءل بعد أن وضعت الحكومة استراتيجيتها الجديدة لحل أزمة دارفور ، أين وصلت استراتيجية العودة الطوعية تلك ومن من النازحين قد تمت اعادتهم الى ديارهم ؟ للأسف كانت عودة افتراضية « ركبت فيها الحكومة ماسورة » . وصف لى محدثى ، الشاهد الذى كان ضمن حشد تدشين حملة استراتيجية للعودة الطوعية المزعومة ، أن والي احدى ولايات دارفور كان قد دشن برنامج العودة الطوعية فى احتفال ضخم بحضور مجلس أمن الولاية وكبار المسؤولين مع حرص بالغ على أن يكون المراسلون الصحفيون ومناديب الفضائيات المحلية و الخارجية حاضرون ، وأُحضرت اللوارى وأُحضر النازحون ثم تم تصويرهم وهم يركبون فوق اللوارى وسط تهليل وتكبير المسؤولين وطارت الصور والخطابات الحماسية عبر الأسافير وحطت على الشاشات البلورية وصدّق الناس أن هناك عودة طوعية تمضى على قدمٍ وساق وأن الأزمة فى طريقها الى الحل ! ولكن وبعد عدة شهور ، فان أنفسنا الأمارة بسوء الظن لم تدع لنا مناصاً فظلت تحاصرنا بالأسئلة من شاكلة أين هى تلك القرى التى سيق اليها النازحون ؟ وما هى محصلة استراتيجية العودة الطوعية ؟ ولماذا لم تنقص أعداد النازحين فى المعسكرات بل ظل عددهم فى ازدياد ؟ أم هم كجبل الجليد كلما غرفت منه ازداد ؟ . الأجوبة على تلك الأسئلة وجدتها لدى محدثى الذى هو من غمار الناس موظف عادى ممن نظّموا الحشد الذى دعا اليه السيد الوالى ، فقد حكى لىّ أنه وبعد أن ركب النازحون فوق ظهور اللوارى وتحركت بهم غير بعيد وانفض سامر المسؤولين وتفرق جمع السماسرة الذين تصدوا لاقناع هؤلاء بالركوب فى اللوارى بعد اخراجهم من المعسكر ، مالبثوا أن نزلوا من اللوارى وركبوا موصلات المدينة التى تمر بجوار المعسكر ليعودوا اليه بعد دقائق من مغادرته !! ليتضح الأمر فى مابعد أنه لايعدو سوى سوق مواسير خسرت فيه الحكومة الأموال وقبضت الريح وخرج السيد الوالي ببعض الزخم الاعلامى والسياسى الى حين ولكن المستفيد الأكبر هم أولئك السماسرة الذين قبضوا أموال العودة الطوعية وطاروا برزقهم الحرام وظل النازحون هم أولئك الناس الأبرياء الذين يقطنون فى تلك المعسكرات الى حين اشعارٍ آخر . شكوكنا آنذاك حول جدوى وفشل استراتيجية العودة الطوعية لم تكن بسبب وساوسنا وحدنا ، ولكن البرلمان السوداني نفسه كانت تراوده الشكوك حول استراتيجية ما يُسمى ببرنامج العودة الطوعية ، ففى يوم 28/12/2009م قرر البرلمان تشكيل لجنة مختصة وايفادها لدارفور للوقوف على حقائق العودة الطوعية بالولايات الثلاث في وقت أعلنت فيه لجنة الشئون الانسانية بالبرلمان أنها ستقوم باستدعاء وزير الشئون الانسانية لتقديم تقرير عن الأرقام والحقائق التي تتحدث عنها الوزارة بشأن العودة الطوعية للنازحين بولايات دارفور ، وهل هناك شك أكبر من شكوك البرلمان هذه ، والبرلمانيون هم فى أكثريتهم زمرةٌ ممن عيّنهم المؤتمر الوطنى ؟. وهكذا وهى تحاول حل أزمة دارفور ، ظلت الحكومة تقفز من فننٍ الى فنن ومن حائط الى حائط ومن استراتيجية الى أخرى وقضية دارفور تستعصى على الحل وكل يوم الأقليم فى غمٍ و همٍ جديد ، ففى ظل محاولات الحكومة غير المجدية والتى خبرناها وحفظناها عن ظهر قلب ، ليس هناك مايشير الى أن الاستراتيجية الجديدة ستنجح فى حل الأزمة ، فالطريقة التى ظلت تتبعها فى الحل أثبتت الأيام خطلها وعقمها ، فالحكومة تراهن دوماً على قدرتها على سحق التمرد عن طريق الاسهام فى تشتيت الحركات ومحاولة خلق حركات موازية لها واعمال مبدأ الاستقطابات الحادة وسط أهل دارفور وتخويف قبائل أهل دارفور من بعضهم البعض وزرع الشكوك بينهم خشية أن تلتف جميعها حول المطالب المشروعة لأهل الاقليم ، أيضاً ظلت تعتمد على عدد من المنتفعين من أبناء الاقليم والسماع الى رؤيتهم والاقتداء بآرائهم فى الوقت الذى يحرص فيه هؤلاء المنتفعون من الأزمة على بقاء الأوضاع متوترة وملتهبة على الأرض حتى تستمر الحكومة فى الاعتماد عليهم لتستمر مصالحهم فى التدفق ومواقعهم الدستورية محفوظة فى بال وخاطر الحكومة . ولكن رغم كل هذا سنُحسن الظن باستراتيجية الحكومة الجديدة ولو الى حين ، ولكننا من العسير أن نتجاهل ذلك الخلل البائن في تكوين اللجنة المناط بها التنفيذ وهو أمرٌ يصعب تجاوزه بسبب التجربة التأريخية لطرائق وأساليب المؤتمر الوطنى فى حل أزمة دارفور ، فاننا اذا نظرنا الى الاستراتيجية الجديدة بعين مجردة حتى من السياقات التأريخية ومدلولات التجارب ... فان ما يجعلنا لانثق فى قدرة اللجنة على الحل هى قائمة مهام اللجنة الطويلة والمعقدة وعضويتها المتمثلة فى وزراء وزارات هامة لديها هى نفسها الكثير من المشاكل والمهام الأخرى الأمر الذى يجعل الوزير كثير المهام ولايستطيع التفرغ للبت فى مهام معقدة تستلزم التفرغ لها تماماً ، نذكر بعضها فقط لندرك حجم التعقيدات التى ستجابه اللجنة ، فعلى سبيل المثال وضع استراتيجيات للتعامل مع دول الجوار التى لها صلة بالأزمة ووضع استراتيجيات للتفاوض والتعامل مع منظمة الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقى وعودة النازحين واللاجئين الى ديارهم والاشراف على سير تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين الحكومة والحركات المسلحة وتفعيلها الى آخر القائمة الطويلة من المهام ، فكل واحدة من هذه المهام تحتاج الى معجزة حتى يتمكن هؤلاء الوزراء المشغولون أصلاً لايجاد حلٍ لها ، على كل حال سننتظر ربما تُفلح اللجنة فى انجاز مهامها لتُخرس ألسن أمثالنا من المتشككين وحينها سنكون من أسعد الناس بالحل الذى سيتوفر رغم أن اخوتنا لن يصدقون أننا سنكون سعداء لأنهم يعتقدون دوماً أن من ينتقد طريقتهم فى حل أزمات البلاد أو يرفد لهم النصح لابد أن يكون بالضرورة طابورا خامسا أو متمردا أو تُحركه أجندات خارجية تستهدف السودان الذى هو هم فقط .