تفتحت عيناي وأنا طفل في أوائل الستينيات على سينما برمبل أو (برامبل)، فقد كانت على بعد بضعة أمتار من منزلنا في الميدان الواقع شرق بوستة أمدرمان، أما سينما الوطنية فهي إلى جوارها ومازالت إلى يومنا هذا في موقعها المطل على بدايات شارع الموردة في منطقة السوق، وفيما بعد شيدت سينما أمدرمان في ذات الشارع إلى الجنوب من سينما الوطنية. حينما كنا أطفالاً كنا نذهب إلى سينما برامبل برفقة الكبار من أهلنا، إذ كان في حكم المحرم علينا كأطفال الاقتراب من السينما في الأمسيات لوحدنا. ومن الأفلام التي كانت تستهوينا في أيام الطفولة والتي تعرضها سينما برمبل فيلم القرصان الأحمر بطولة بيرت لانكستر وأفلام الوسترن أو (الكاوبوي) الأمريكية بطولة غاري كووبر وجيف شاندلر (أبو شيبة كما كان يسميه العوام من الرواد)، إلى جانب أودي ميرفي (وهو قطعاً ليس أيدي ميرفي الممثل الكوميدي الأسود في ايامنا هذه). كذلك كانت تستهوينا أفلام إسماعيل ياسين وكان المنتجون المصريون يستعينون أحيانأً ببعض المطربين السودانيين أمثال سيد خليفة وإبراهيم عوض حيث يتم إقحامهم في الفيلم لضمان رواج الفيلم في السوق السوداني. كانت شاشة سينما برامبل من القماش شأنها شأن بقية السينمات في ذاك الزمن، لذلك كانوا يتخيرون يوماً نهارياً كل بضعة أسابيع لنظافة الشاشة من الغبار والعناكب مما يساعد على نقاء الصورة على الشاشة، ولما كنا أطفالاً بعقول يختلط فيها الخيال الواسع مع سذاجة الطفولة فقد رحنا ننتظر يوم نظافة الشاشة وإنزالها بفارغ الصبر، حيث نتسلل نهاراً إلى داخل السينما ونحن نمني النفس بخروج بيرت لانكستر وغاري كوبر وإسماعيل ياسين في لحظة فك الستارة وإنزالها! كبرنا بعد ذلك وعندما أصبحنا في شرخ الشباب كنا نمضي إلى السينما ونحن في رهط كبير من أولاد (الحلة) حيث نستمد من كثرتنا شجاعة الدخول إلى السينما (شعب)... وما أدراك ما في الدخول (شعب) من مخاطر أقلها أن يصيح أحد الفتوات وهو في صف الدخول قائلاً: (يا بوليس ده مرق من الصف)! ويعود الفضل إلى إنشاء سلسلة دور السينما الوطنية في العاصمة والمدن الكبرى إلى مؤتمر الخريجين وذلك تحدياً لقرار الحاكم العام بإعطائه ترخيصاً للسيد/ قديس عبد السيد لقيام سينما برامبل في ذاك الميدان.. ميدان البوستة والذي كان بمثابة المتنفس أو الرئة لمدينة أمدرمان القديمة. في مطلع الستينيات وعلى عهد عبود تم هدم سينما برامبل وأقيمت مكانها حديقة غناء تتوسطها نافورة ضخمة وعلى أبواب الحديقة الأربعة وُضعت لافتات كُتب عليها (أحكموا علينا بأعمالنا.. عبود)، كما وُضِعَ تمثال بالحجم الطبيعي لامرأة ترتدي الثوب السوداني ليجسد نهضة المرأة السودانية. جاءت ثورة أكتوبر 64 وشأنها شأن كل الثورات احتشد فيها المناضلون والوطنيون والأفاقون والغوغاء وحتى اللصوص. عمد بعض هؤلاء الغوغاء إلى إسقاط تمثال نهضة المرأة بعد أن وضعوا حبلاً على عنقها وربطوه بعربة حتى أسقطته هشيماً كما سقط تمثال صدام. ظللنا نرقب هذا المشهد ونحن أطفال ولا نفهم علاقة إسقاط التمثال بالثورة إلى أن تطوع أحد أولئك الغوغاء قائلاً أنهم أسقطوا التمثال؛ لأن المرأة ( التمثال ) كان أسفل ظهرها يبرز بروزاً غير محتشم