أعلنت أمريكا أن لديها استراتيجية جديدة نحو السودان سمَّتها خيار الجزرة الكبيرة والعصا الغليظة، فاذا استجاب السودان للتطبيع مع أمريكا فسنأكل الجزرة الكبيرة. ومما تسرب من هذه الجزرة إعفاء ديون السودان الخارجية، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للارهاب، وتعيين سفير أمريكى للسودان، وتخليصنا من المقاطعة الاقتصادية.. أما إذا استمر عناد الجماعة فسيكون هذه المرة الضرب على رأسنا ليس بالعصا الصغيرة التى كانت تستخدم فى الماضى، وإنما بالعصا الغليظة. ونتفق جميعا بما فينا أهل الانقاذ أن امريكا هى القوة العظمى الوحيدة فى العالم، وهى المتحكمة فيه بعد سقوط الاتحاد السوفيتى بفعل العصا الامريكية التى اشبعته بها ضربا حتى خرَّ على ركبتيه مستسلما ورافعا يديه الاثنتين، وقد كنت من الذين يراهنون «رغم اننى لست شيوعياً» على أن الدب الروسى سيأكل الكاوبوى الامريكى «وكنت من الهتيفة لذلك» حتى رأيت الدب الروسي مثخنا بالجراح يلعق دماءه ويستجدى الصدقة فى حوارى نيويورك، وانا اشاهد المئات من الطبقة العاملة الروسية وهى تهرول تجاه عربات القوى الرأسمالية تستجدى العمل، وعندما قابلت علماء ذرة يحملون درجة الدكتوراة يبحثون عن اى عمل فى مكاتب العمل الامريكية لا يهم مادام الصرف بالدولار..!! وتذكرت هتافاتنا فى أيام الطلب امام السفارة الامريكية فى شارع الجمهورية والتى يتردد صداها بين عمارات السوق الافرنجى «داون داون يو اس ايه عاشت روسيا الصديقة»، وعرفت أن الذى دعونا عليه بأن يسقط قد عاش وأن الذى دعونا عليه بأن يعيش قد سقط سقوطا لا بعده رغم قنابله النووية والهيدروجنية وصواريخه العابرة للقارات ورغم اقتصاده المتنوع الضخم..!! فلماذا لا نأخذ العظة من هذا العملاق الذى هوى ؟؟ ولا توجد مقارنة بين قوتنا وقوة الاتحاد السوفيتى العظيم «كما كان يطلق عليه النميرى فى بداية مايو». إن الدعوات التى بدأت ترتفع الآن برفض جزرة امريكا ومواصلة مصارعتها حتى ننتصر عليها ! هى دعوات غير واقعية ولا تعرف امكانيات امريكا وامكانياتنا، والعاقل من يعرف مدى قوته ونقاط ضعفه.. وينبغى أن نكون واضحين مع أنفسنا فنحن دولة من العالم الثالث فقيرة ونحتل المركز الثالث في قائمة الدول الفاشلة وديوننا «36» مليار دولار، وتمزقنا حرب فى غربنا لا نعرف حتى الآن مآلاتها، وثلث وطننا على وشك الانفصال منا، وهناك بؤر ودمامل فى أبيى وجبال النوبة والنيل الأزرق ستتقيح قريبا، وامريكا التى سنصارعها تصرف على مواطنينا النازحين فى دارفور اكثر من مليار دولار سنويا لإعاشتهم، فهل نحن مستعدون الآن لفتح معركة مع التنين الأمريكى؟ إننا فى أمس الحاجة للانكفاء على جراحاتنا لتضميدها، ولسنا فى حاجة لفتح معارك مع دول عظمى لن نستطيع أن نصمد فيها مهما تسلحنا بالعنتريات. إن قادتنا فى حاجة لمعرفة ضعفنا وقدراتنا المعدومة وما يجابهنا، وفي حاجة لإخراج هذا الوطن من عنق الزجاجة حتى ولو بالانحناء لامريكا ومحاولة الخروج باكبر المكاسب واقل الخسائر فى المواجهة القادمة مع امريكا عند تطبيق استراتيجيتها الجديدة.. إننا ينبغى أن نفيق من هذا التوهم بأن الصين ستقف معنا لمواجهة امريكا، وحتى البترول الذى كنا نراهن عليه لاستمالة الصين سيخرج من يدنا وسيصبح فى يد دولة وليدة.. والصين لديها مصالح تجارية مع امريكا بمليارات الدولارات، ولديها بلايين تمثل سندات خزينة امريكية باعتبارها ديوناً، فالصين ليس من مصلحتها أن تضعف امريكا، فمن سيسدد لها هذه السندات، كما أن المهاجرين الصينيين يدرون على بلادهم امولا طائلة تتضاءل معها المصالح مع بلادنا. إن قادتنا دائما ما يعلنون أنهم على استعداد للتضحية بالارواح من اجل الوطن، والوطن الآن وهو فى حالة أن يكون او لا يكون ليس فى حاجة لمن يضحى بروحه، وانما فى حاجة لمن يتنازل عن شىء من السلطة لينقذه، وفى حاجة لمن يتريث فى اتخاذ قرارات كبيرة مثل مواجهة امريكا.. فالمواطن السودانى قد تعب من دخول هذه المعارك غير المتكافئة التى يتضرر منها أكثر من تضرر المسؤولين، ويتضرر منها الوطن الذى مازال ينزف من آثارها.. إننا فى لحظة مصيرية إما أن نستمع فيها لصوت العقل ونقبل اكل الجزرة فتعفى ديوننا التى اثقلت كاهلنا ونرفع من قائمة الارهاب ونتخلص من المقاطعة الاقتصادية التى انهكت اقتصادنا ونطبع علاقتنا مع العالم، أو نختار الاستمرار فى النزال ومواصلة الانشاد: أمريكا روسيا قد دنا عذابها إذا لاقيتها وجب ضرابها ويا أمريكا أختينا دقيقنا الفي يكفينا ويبقى أنه مرت عشرون عاماً على هذا النشيد ومازلنا نأكل من القمح الامريكي..!! قاضٍ سابق